سالم الكتبي

إردوغان وإحياء صراع الحضارات

الاثنين - 20 يوليو 2020

Mon - 20 Jul 2020

لم يكن ينقص الرئيس التركي رجب طيب إردوغان ليثبت ولعه وشغفه بعودة حقبة السلطنة العثمانية بكل كوارثها التاريخية، سوى هذا القرار الذي أشعل به فتيل صراع حضارات كافح العقلاء في العالم كثيرا خلال السنوات القلائل الماضية كي ينطفئ.

من المعروف أن صدام أو صراع الحضارات هو تلك النظرية البغيضة التي قال بها صمويل هنتجتون في عقد التسعينات ليؤطر من خلالها رؤيته لعالم ما بعد طي صفحة الحرب الباردة، إثر تفكك الاتحاد السوفيتي السابق، معتبرا أن العالم سيشهد حروبا على أسس ثقافية وحضارية ودينية، ومشيرا إلى صراعات بين المسلمين وأصحاب الديانات الأخرى زاعما بأن الإسلام يمتلك «حدودا دموية»، وحصلت هذه النظرية على قوة دفع من ممارسات «داعش» وأخواتها من تنظيمات الإرهاب في مناطق شتى من العالم. ولأن دعاة الصراع بين الحضارات قد تراجعوا، إثر هزيمة تنظيمات الإرهاب واستئصال جذورها من العراق وسوريا، فإن المرجعية الأيديولوجية الضيقة للرئيس التركي إردوغان قد غلبت عليه ودفعته لمنح دعاة الفتنة بين الأديان وإشعال الصراعات الدينية جرعة أوكسجين جديدة بقرار في غاية الغرابة من حيث الموضوع والتوقيت في آن واحد، حيث قرر أإردوغان إعادة تحويل متحف «آيا صوفيا» إلى مسجد.

لم يدرك الرئيس التركي رجب طيب إردوغان حتى الآن أن ما يعتبره خطأ لا يعالج بخطأ مضاد، فأحيانا لا يمكن تصحيح ما يعتقد البعض أنه أخطاء بإعادة الأشياء إلى أصلها، حيث يقول إردوغان في تبرير قراره إن سلطات بلاده هي من حولت آيا صوفيا إلى متحف بقرار خاطئ في الماضي، مضيفا «ها نحن نعيده إلى مسجد مجددا» بعد أن تلقف حكم المحكمة الإدارية العليا التركية، بإلغاء قرار مجلس الوزراء الصادر في 24 نوفمبر 1934، القاضي بتحويل «آيا صوفيا» من مسجد إلى متحف.

لم يكتف إردوغان بذلك بل تحدث في إطار رده على الانتقادات الغربية لقراره كرجل دين وليس رجل دولة، وفي أحسن الأحوال يبدو أنه يحاول ارتداء ثوب السلطان أو الخليفة الذي يحلم به ليقوم بخلط «الديني» بـ«السياسي» في خطابه الرسمي المعبر عن الموقف الرسمي التركي، حيث أشار إلى أن دور العبادة لغير المسلمين في تركيا تفوق 4 أو 5 أضعاف عدد المساجد في أوروبا، وأن هناك دار عبادة واحدة لكل 460 شخصا غير مسلم في تركيا، مقابل مسجد واحد لكل 2000 مسلم في أوروبا.

يقول إردوغان إن القرار هو حق سيادي لتركيا، وهذا صحيح ولكن في حالات أخرى لا تحيط بها مثل هذا الكم الهائل من الحساسيات السياسية والدينية، والمسألة هنا لا تتعلق بحقوق الدول والشعوب بقدر ما تتعلق بالأمن والسلم الاجتماعي والتعايش بين الأديان في تركيا ذاتها قبل أن تكون في دول أخرى!

والحقيقة أن موقف إردوغان في قضية «آيا صوفيا» نابع من حسابات سياسية شخصية بحتة ولا علاقة لها البتة بالإسلام ولا المسلمين، فلن يزيد المسجد الإسلام في تركيا قوة ولن يخصم من أعداء الإسلام شيئا، بل سيسهم فقط في فتح جبهة صراع جديدة بين الإسلام والأديان الأخرى ويمنح اليمين المتطرف في أوروبا ذريعة جديدة للهجوم على الإسلام والعمل ضد المسلمين وتغذية تيار الإسلاموفوبيا في الغرب بشكل عام.

الحقيقة أيضا أن الاصطفاف العاطفي الانفعالي الذي طغى على كثير من ردود الأفعال في الدول العربية والإسلامية حيال قرار إردوغان قد انساق وراء شعارات الإسلام السياسي التي لا تزال تتاجر بأحلام الشعوب وتدغدغ عواطف البسطاء بالشعارات الدينية والحنين الجارف للماضي.

اللافت في الأمر أن الرئيس إردوغان ذاته كان في الماضي القريب من معارضي إعادة تحويل المتحف إلى مسجد، ولكن يبدو أنه تلقف حكم المحكمة ووجد فيه ما يمكن أن يساعده في ترميم شعبيته المنهارة، ولو من خلال قرار محفوف بالأخطار والمجازفات، كما وجد فيه فرصة سانحة للانتقام من الرفض الغربي الواسع لسياسات تركيا الإردوغانية، ورفض انضمام تركيا للاتحاد الأوروبية وإغلاق أبواب أوروبا في وجهها بشكل نهائي.

ومن تابع الخطاب السياسي الصادر عن قيادات حزب العدالة والتنمية التركي الحاكم احتفاء بقرار «آيا صوفيا» يلمس فيه بسهولة روح تنظيمية أيديولوجية ضيقة وليست سياسية أو حتى حزبية، فالحديث كله يدور حول تحرير المسجد وتحقيق نصر للإسلام وأن ذلك يمهد لاستعادة مساجد المسلمين في الأندلس وأوروبا، وغير ذلك من الشعارات التي ترفعها التنظيمات المتطرفة في صراعها مع شعوبها والعالم أجمع! وهو الخطاب الأيديولوجي المعهود للجماعات الإرهابية المتطرفة، خاصة الإخوان المسلمين.

أخطر ما في هذا القرار العبثي أنه يعيد تركيا إلى صراعات الهوية مجددا، حيث يشعل الصراع حول الدين وموقعه في البناء السياسي للدولة، ويثير الشكوك بقوة حول العلمانية التي كانت أساس استقرار الدولة المركزية التركية منذ بدايات القرن العشرين وحتى الآن.

كما يغامر إردوغان باستقرار بلاده في سبيل إنقاذ شعبيته المأزومة، ويدغدغ عواطف ملايين البسطاء بقرار لن يضيف إلى تركيا وشعبها سوى مزيد من العزلة والأعداء، وهي خطوة تمثل بالفعل لعبا بالنار ولا تصدر عن رجل دولة قادر على تقدير المواقف وبناء التقديرات الاستراتيجية الصائبة حول نتائج القرارات التي يتخذها.

@salemalketbiar