هيفاء السريحي

المعلم المتأمل

الخميس - 09 يوليو 2020

Thu - 09 Jul 2020

إن ما وصل إليه التاريخ الإنساني من تحولات جبارة ما هو إلا سمة بارزة لتأثير العقل البشري. ومن مكامن قوة ذلك العقل عمليات التفكير المعقدة التي تدفعه إلى مزيد من الاكتشافات والاختراعات والأفكار الجديدة، لجعل الواقع الإنساني في نمو متسارع ورغبة في الوصول إلى عالم أكثر تحسينا واستدامة.

بدأ استغلال الإنسان لقدراته العقلية في استخدامه لعملية التأمل، وهي القراءة العميقة للأحداث والمواقف عن طريق الاستقصاء والتحليل والتركيب، بهدف الوصول إلى معرفة الحقائق المجردة أو التفسير المنطقي لما يحدث حوله، والتي تتطلب قوة في مواجهة النفس والتعامل معها بكل صدق وشفافية.

وقد نادى العلماء والباحثون بذلك من خلال دراساتهم التي تثبت أهمية ممارسة التأمل في المنظمات التعليمية، سواء على مستوى الطالب أم المعلم، وما لها من أثر واضح في الازدهار الفكري والعلمي للإنسان.

فالمعلم المتأمل هو من يستغرق في التفكير بعمله بهدف التعرف على مواطن قوته ويعمل على تعزيزها، أو يتعرف على مواطن الضعف والقصور فيعمل على علاجها، من أجل رفع جودة أدائه وزيادة نضجه المهني والاجتماعي. وهو ما يكسبه القدرة على التكيف ومواجهة التغييرات، وبالتالي تجويد التحصيل العلمي للطلاب، وهذا الجوهر الأساسي لعملية التعليم والتعلم.

وللتأمل ممارسات عديدة، منها الممارسة التأملية الذاتية وهي استيعاب فكرة واحدة محددة والانخراط في التفكير بها للوصول إلى نتيجة وحقيقة واضحة. ولها طرق متنوعة كالكتابة مدة معينة دون توقف، أو كتابة الحدث المراد التأمل به على شكل قصة، والتي تمكن المتأمل من النظر إلى زوايا أبعد من خلال قراءته للكتابة أو القصة، وهذه الممارسة تمكنه من فصل المشاعر عن الموقف لفهم حقيقة الموقف والوصول إلى الهدف المنشود.

وهناك ممارسة تأملية جماعية كمشاركة زميل أو صديق للتأمل فيما جرى، وتحليل الموضوع والتعمق في حيثياته وعلاجه.

بالإضافة إلى التأمل من خلال فريق، كالقيام بالأبحاث الإجرائية أو المشاركة في إعداد الدراسات، أو التأمل في التحصيل التعليمي للطلبة، أو دراسة حالة معينة.

علاوة على ذلك هناك ممارسة على مستوى المدرسة، مثل قيام كل أعضاء المجتمع المهني للمدرسة بتأمل في أساليب التقويم، أو التأمل في محتوى المواد الدراسية، أو استراتيجية تعليمية معينة.

وللتأمل أهمية بالغة في العملية التعليمية، فهي تساهم في تحسين أداء المعلم ومجتمعات التعلم المهنية وزيادة كفاءتها، مما ينعكس إيجابا على مصلحة الطلبة. كما أنها تلعب دورا في نماء الخبرات التعليمية وتنوعها. وتعطي المعلم القدرة على اتخاذ القرار المناسب دون الحاجة إلى انتظار المساعدات الخارجية. وتعمل ممارسة التأمل على التجديد المتواصل في عملية التعلم والتعليم نتيجة تعديل المعلم لمسار عمله أو تفكيره، إضافة إلى أنها تعطي المعلم مساحة جيدة من الحرية الأكاديمية في ممارساته التدريسية والبعد عن السلوكيات الروتينية الرتيبة. وتعزز ممارسة التأمل لدى المعلم الوعي والإحساس بالمسؤولية تجاه تطوير أدائه ونموه المهني.

والتأمل ممارسة تفكير لا تتقيد بوقت معين بقدر ما ترتبط بذهن حاضر ذي نظرة ثاقبة للأحداث والمواقف، فهناك تأمل أثناء العمل يمكن للمعلم من خلاله إحداث الفارق من ناحية تعديل سلوكه أو تغيير طريقته أثناء حدوث الموقف، والتي تتطلب معرفة جيدة بالعمل والأسلوب الأمثل للتعامل مع مهام معينة. كأن يتأمل عدم استيعاب طلابه لطريقته الحالية في التدريس فيعمل على تغيير أسلوبه، أو يتخذ القرار المناسب في مشكلة قائمة لطلابه. فالتأمل يتطلب الاستبصار والتقصي وقدرة على التعديل أثناء القيام بالعملية التعليمية.

وهناك تأمل بعد العمل، والذي يستدعي استحضار الموقف والتفكير بها بعد حدوثه وانقضائه، لتهيئة العقل لاتخاذ القرار الحكيم فيما لو تكرر الحدث مرة أخرى، يظهر ذلك من خلال تقييمه للحلول التي استخدمت لحل المشكلة إن وجدت.

ختاما، إن ممارسة المعلم للتأمل أضحت مهارة ضرورية، ولا سيما نحن نعيش حقبة التنمية الذاتية والوعي الذي يتطلب من المعلم التدريب المستمر لتمكين هذه المهارة واستغلالها بما يفيد المنظمة التعليمية.

@h_Alsurayhi