محمد الأحمدي

من وحي الجائحة.. من طالبة لغة إلى مشردة تائهة

الثلاثاء - 09 يونيو 2020

Tue - 09 Jun 2020

أسطر لكم قصة واقعية من القصص التي شهدتها وعشت تفاصيلها أثناء تخييم وباء Covid-19 على إنجلترا. قصة ألم من آلام الجائحة على الطلاب الدوليين. يوم الجمعة 12 مارس لم يكن كغيره من أيام الجُمع التي تستمتع فيها الفتاة اليابانية «نينا» طالبة اللغة الإنجليزية بالتسوق في وسط المدينة بعد منتصف النهار، برفقة أصدقائها. فهي في هذه الجمعة تتجول بحقائبها في شوارع المدينة الوجلة باحثة عن مأوى تلجأ إليه وتستظل بظله حتى يحدث الله بعد ذلك أمرا.

رغم أن المدينة لم تتخذ إجراءات الإغلاق الكلي حينئذ، ولكن دب الرعب في قلوب الناس والمؤسسات التعليمية والفنادق ونحوها. وبعد أن كان الطالب الدولي مصدر استثمار تتسابق لخدمته المؤسسات التعليمية، أصبح مصدر قلق لها تحاول التخلص منه.

مع وصول الفيروس صاحب وجه الشؤم خاصة على الطلبة الدوليين، ارتبك المجتمع وازدادت وتيرة التسوق حتى أصبحت بعض المنتجات أثرا بعد عين. ويبدأ الصراع القيمي في نفوس الطلاب الدوليين لتحديد المصادر الموثوقة التي يجب أن يتبعوها، أهي مؤسساتهم التي تبعد عنهم آلاف الأميال، والتي ربما يكون لوقع الوباء عليها سياق مختلف، أم لبلد يعيشون فيه ويتعايشون مع أنظمته؟! لا تطول هذه الفترة فقد يقرر كثير منهم مغادرة البلاد نحو أوطانهم.

في فصل لغة بمعهد تجاري ستة طلاب للغة في مستوى متقدم: سعودية وفرنسية ويابانية وجرينلاندية وتايلندية وسويسري، يبدأ الأمر باتصال من والد الفرنسية في ليلة الجمعة بأن عليها مغادرة البلد عبر البحر، فقد تم حجز تذكرة بحرية لها كوسيلة نقل ما زالت تعمل بين البلدين. فالأوضاع الأوروبية مقلقة. تغادر الفتاة مستجيبة لنداء والدها في ليلة ظلماء قد لا تعمل إضاءات الشوارع فيها المستمدة من الطاقة الشمسية معظم الليالي، وأضنها تشابهت مع طاقات البشر التي استنزفت من التفكير في الأمر آنذاك.

يحاول أن يمرر المعهد صباح الجمعة رسالة غير مباشرة للطلبة بعدم وجود موقف واضح للحكومة حينئذ تجاه الوضع الدراسي، يحفزهم نحو التعلم عن بعد تارة أو مغادرة البلاد تارة أخرى. فيجمع الطلاب على عدم تفضيله في تعلم اللغة،

باستثناء السويسري الخمسيني الذي علق دراسته حتى إشعار آخر وقرر المغادرة في اليوم نفسه.

المفاجأة لم تأت بعد! تُصاب الطالبة اليابانية الموظفة بالصحة اليابانية، والتي قدمت لتتعلم اللغة لمدة 3 أشهر بالأنفلونزا الموسمية التي تنتشر في بداية موسم الربيع، فيستقبلها مدير المعهد في بهو الاستقبال ليتحقق من درجة حرارة الجسم الذي أتت نتيجتها طبيعية، ولكن الحرص جعله يقرر عزلها بغرفة مستقلة للفترة الأولى من الفترات الصباحية ثم يتنازل عن ذلك في الفترة المسائية، فتألمت نفسيا لذلك لكن لم تتوقع بأن هناك ألما قادما سيحل بها عند العودة إلى عائلتها التي تسكن معها كمثيلاتها من الطلاب لتنمية مهارات اللغة.

تعود في الواحدة ظهرا إلى منزلها، إذ عادة ما تختتم المعاهد التجارية دروسها قبيل ذلك الموعد مراعاة لبعض الطلبة المسلمين ليتمكنوا من أداء صلاة الجمعة. وكما بدأ النهار بفحصها، انتهى الحال بطلب العائلة منها مغادرتها المنزل، بحجة أن السيدة العجوز السبعينية تخشى على نفسها الضرر من انتقال العدوى فالفيروس يعشق هذه الفئة من البشر بشكل كبير.

هنا بدأ الألم الحقيقي لتلك الطالبة التي طالما رأت المشردين على أرصفة المدينة دون الشعور بما يقاسونه من معاناة.

تخرج تائهة الفكر شاردة الذهن، تسبق دمعتها خطوتها نحو الشارع الصغير الذي لا يكاد يتسع لسيارتين، فتشاهد صديقتها السعودية التي تأخرت في المعهد لتأخذ درسا خاصا لاختبار الأيلتس فتخبرها بالأمر وتقص عليها القصة، وبطيبة وأخلاق ابنة المملكة تعرض عليها السكن معها حتى تتدبر أمرها. يوم عبرت عنه الطالبة اليابانية بأنه رغم ثقل الألم والحزن واليأس والحقائب التي تجرها، إلا أنها شعرت فيه بالسعادة والأنس والأخوة الإنسانية التي لمستها في تلك الفتاة السعودية المضيافة.

فقد منحتها فرصة لتعلم الطبخ السعودي في وجبة الغداء، وقدمت لها الهدايا، وعاشت 24 ساعة ثرية بمعرفة الأخلاق العربية والهوية السعودية دون عناء للسفر إلى تلك الأرض التي تتمنى أن تزورها يوما من الأيام. غادرت بعد يوم وليلة بعد الحصول على حجز طيران دولي يمر بثلاث محطات لتصل إلى اليابان بصحة وسلامة، وبقيت في الحجر الطبي 14 يوما. سطرت تلك المبتعثة السعودية قصة خالدة في ذاكرة نينا وعائلتها اليابانية بأكملها، بقيم وهوية وأخلاق المواطنة المخلصة لوطنها ومبادئها وحسن تعاملها، فابنة الوطن سفيرة بأخلاقها كريمة بعطائها. «نينا» اسم مستعار لا يمثل الطالبة اليابانية في الحقيقية.

alahmadim2010@