سالم الكتبي

خسائر أمريكا الحقيقية في أزمة فلويد

السبت - 06 يونيو 2020

Sat - 06 Jun 2020

ضمن متابعتي للمظاهرات العارمة التي شهدتها مدن وشوارع الولايات المتحدة الأمريكية خلال الأيام الماضية، إثر مقتل جورج فلويد، لاحظت أن كثيرا من التحليلات ومقالات الرأي في وسائل الإعلام قد تعاملت مع الأمور من زاوية «التحليل بالتمني»، وطغت عليها انحيازات الكاتب الفكرية أكثر من الرؤية الموضوعية للأمور، وتصدرت في تفسير الأحداث مفاهيم مثل «ثورة» و»انتفاضة»، وغير ذلك من الكلمات والمصطلحات، فهل ما حدث يمثل بالفعل «ثورة» على النظام السياسي الأمريكي؟ أم موجة غضب عابرة؟ وهل ستسفر هذه الاحتجاجات عن تغيير اجتماعي في بنية النظام الأمريكي أم ستمر مرور الكرام؟

عشرات التساؤلات طرحتها هذه الأزمة الشديدة، ومعظمها ستحدد الفترة المقبلة إجاباته، ولكن الملاحظ أن المظاهرات الجارفة في الولايات المتحدة قد تسببت في خسائر كبيرة، بل نستطيع أن نقول من دون مبالغة إنها تسببت في تشوه عميق للنموذج الأمريكي، الذي تحول إلى مثار سخرية وانتقاد الملايين حول العالم بسبب ما كشفته حادثة مقتل جورج فلويد من عناصر خفية في النظام الأمريكي، وتكفي هنا الإشارة إلى تصريحات المتحدة باسم وزارة الخارجية الصينية، الذي رد مؤخرا على انتقادات الخارجية الأمريكية للصين بشأن حقوق الإنسان في هونغ كونغ وقمع المتظاهرين، بثلاث كلمات هي «لا أستطيع التنفس»، ومعروف أن هذه الكلمات الثلاث كانت آخر كلمات المواطن الأمريكي جورج فلويد، الذي أثار موته احتجاجات كبرى في أنحاء الولايات المتحدة، بعدما ظهر في فيديو وهو يجاهد لالتقاط أنفاسه بينما يضغط ضابط شرطة أبيض بركبته فوق عنقه.

وكانت الخارجية الأمريكية قد شنت في الآونة الأخيرة حملة انتقادات قوية ضد الصين بسبب سياسات الأخيرة في هونج كونج، وقالت المتحدثة باسم الخارجية الأمريكية مورغان أورتاغوس، عبر حسابها على تويتر إن «هذه لحظة محورية للعالم. يجب على الأشخاص المحبين للحرية في جميع أنحاء العالم الوقوف مع سيادة القانون ومساءلة الحزب الشيوعي الصيني، الذي خالف وعوده بشكل صارخ لشعب هونغ كونغ».

والمعنى هنا أن المظاهرات التي شهدتها الولايات المتحدة بسبب السياسات العنصرية تمثل طعنة قوية للمسوغات التي تنطلق منها واشنطن في ادعاء حماية حقوق الإنسان حول العالم، حيث يمثل هذا الجانب إحدى أهم الأوراق التي تناور بها السياسات الأمريكية في علاقاتها الدولية، سواء من خلال تقرير حقوق الإنسان السنوي الذي تصدره الخارجية الأمريكية، أو من خلال وضع بند حماية حماية الإنسان ضمن الملفات الرئيسية في علاقات واشنطن بدول العالم، ولا سيما مع الدول النامية بالإضافة للخصوم الاستراتيجيين للولايات المتحدة مثل الصين، حيث يركز هذا التقرير على انتقاد دول تصنفها الولايات المتحدة أعداء أو منافسين استراتيجيين لها مثل إيران وفنزويلا والصين وكوبا، فضلا عن بعض الانتقادات لدول أخرى مثل الدول العربية.

ويتضمن هذا التقرير السنوي اتهامات متعددة بانتهاك حقوق الإنسان في دول آسيوية وأفريقية عدة، ويقدم رصدا سنويا - من وجهة النظر الأمريكية - لما تعتبره واشنطن انتهاكا لمبادئ حقوق الإنسان في هذه الدول، ويؤثر هذا التقرير في جوانب عدة، منها كونه ورقة حيوية مؤثرة للضغط على الدول، سواء لتغيير سياساتها في مجالات أخرى بما يتفق مع مصالح الولايات المتحدة أو لقبول وجهات نظر أمريكية معينة في بعض القضايا والأحداث، ناهيك عن الربط في أحيان كثيرة بين مخرجات التقرير والمساعدات الأمريكية التي تتلقاها بعض الدول. ومعروف مسبقا أن مخرجات هذا التقرير يجري توظيفها سياسيا بشكل يتوافق مع المصالح الاستراتيجية للولايات المتحدة أو أحد حلفائها المقربين مثل إسرائيل على سبيل المثال.

وينظر الخبراء والمتخصصون في العلوم السياسية لتقرير حقوق الإنسان الأمريكي باعتباره إحدى أبرز أوراق الضغط التي تمتلكها الولايات المتحدة التي توظفها في ترسيخ مكانتها ونفوذها وهيمنتها كقطب عالمي أوحد.

ورغم أن تقرير الخارجية الأمريكية بشأن حقوق الإنسان يتضمن انتقادات متفاوتة تخص طيفا واسعا من الدول، فإنه لا يؤثر سلبا سوى في علاقاتها مع بعض الدول، بينما اعتادت دول أخرى على مضمون التقرير باعتباره من كلاسيكيات علاقتها مع واشنطن، ولا يعد التقرير مؤشرا على توجه أمريكي محدد حيال هذه الدول سوى في حالات معينة تتوافق فيها سياسات البيت الأبيض مع الخارجية والبنتاجون الأمريكيين.

صحيح أن المظاهرات الحاشدة والفوضى والاضطرابات التي حدثت لأيام عدة في عديد من المدن والولايات الأمريكية قد تسببت في خسائر اقتصادية وأمنية، بل وصحية جراء تزايد فرص تفشي فيروس «كورونا»، ولكن سمعة الولايات المتحدة كراع لحقوق الإنسان والحريات في العالم قد تضررت بشدة، ورغم أن الضرر الناجم عن توابع مقتل جورج فلويد ليس الأول من نوعه بل سبقته أحداث وفضائح عدة مثل قضية سجن أبوغريب في العراق عام 2004، فإن سمعة الولايات المتحدة التي تروج لنفسها باعتبارها نموذجا عالميا يحتذى في القيم والحريات وحقوق الإنسان، كانت الخاسر الأول والأكبر في هذه القضية.

salemalketbiar@