منال إبراهيم

ميلادنا القادم

الأربعاء - 03 يونيو 2020

Wed - 03 Jun 2020

نحتاج مزيدا من الغرق لتبحر سفينة وعينا، ونحظى بميلاد جديد، تستيقظ فيه حواسنا لتدرك أبعاد مختلفة لما كان موجودا في حياتنا بالفعل، ولم نره أو نسمعه أو ندركه بأي شكل كان، ومن تلكم الزاوية قد ننظر إلى حياتنا من بعيد، ونراها مجملة، ككتلة واحدة، جمعت الأول والآخر من أفراحنا وأحزاننا، صورة من فضاء آخر نرى أنفسنا فيه كونا مكتمل، بليله ونهاره، نجومه اللامعة وثقوبه السوداء، ونواجه أقسى من قد نواجه «ذواتنا».

ذلكم الوعي رهن عاصفة تجتاح سكوننا، قد تأتي على هيئة حادث أليم، أو فقد موجع، أو مرض عضال، أو جائحة تحصد الأرواح، أو حتى تقاعد مباغت، نعيش بعده حالة من الذهول عن المشتتات إلى التركيز في واقعنا الخاص، بعزلة جبرية تهيئنا لميلاد طور جديد من الوعي، وتصحيح مسارنا نحو الوجهة الأمثل.

ولعل لنا في جائحة كورونا تبصرة وذكرى، حيث إن إمكانية تكون فيروس في جسم ما، والسماح له بالتنقل بين الأفراد، واختطاف الأحبة، وبرغم مأساويتها على صعيد المجتمعات إلا أنها أحدثت ثورة ما على صعيد الفرد، حيث أعادت الإنسان إلى نفسه، وعالمه، فأعاد ترتيب علاقاته، واستنطاق حجرات منزله لإسعاده وإلهائه، وأعادت الدفء إلى لحظات باردة بين الأسر والعائلات، فاختبرنا مشاعر الشوق والحنين رغم قرب المسافات، وتجاوزنا الضغط الاجتماعي إلى الرغبة الفردية في التجمل، والتخلق، والسماحة، والرضى بما هو موجود، ناهيك عن أننا أدركنا بشكل ما - سواء قبلنا أم لم نقبل - حدودنا.

وهذه اللحظة بالذات، التي تتكشف فيها للإنسان حقائق مهمة عن نفسه، وحياته، وحياة أحبابه، قد لا يصل إليها إلا بعد أن ينجو بنفسه وأحبابه من الجائحة، ويجد نفسه في مسار جديد، وبداية أوعى، وسواء اخترت - أيها الإنسان - الاستيقاظ أم الانغماس في غمرات الملهيات؛ خوفا من المواجهة مع الذات، وتقييم ما قدمت وأخرت فإنها لا بد حادثة ذات يوم مقدر من أيامك، إنها معركتك التي لا بد أن تخوضها، ودرسك الذي حتما منه ستتعلم، أيا ما كانت ساحتك ومضمار تعلمك.

وهكذا قد يأتي أوان آخر، نفرغ فيه بعزلة كلامية إلى ما نريد قوله بالفعل، ونقاطع مسرح التواصل الاجتماعي المفترض؛ خوفا من فيروس ما يصيب أعز ما لدينا من أجهزة، ونضطر راغمين إلى أن ننشئ حكايتنا الخاصة، وعبارتنا المتفردة، الممزوجة بصدق الإحساس ونقاء المقصد، وكما أننا عشنا تجربة عزلة البدن والخوف من الآخر خشية الوباء، وواجهنا حكم الاعتياد المقيت، ونضال التقيد بالممارسات الصحية في الصلة والتواصل، فمن الممكن أن نعيش عزلة المعرفة التي يخلص فيها كل فرد لما يملك بالفعل من فهم للحياة، وكلمات تعبر عن مكنوناته ومقاصده، بعيدا عن أمواج النصوص المنسوخة التي تعج بها ساحات برامج التواصل المزعومة.

وإن عزلة في أروقة مستشفى أو ظلمات مقبرة أو غياهب سجن أو أسر شوق أو ذكرى لكفيلة بأن تعيد وعينا المفقود، وتوقظ في دواخلنا أسئلة المنشأ والمصير، إنها تعود بنا إلى السجال الأبدي بين: من أنا؟ وماذا أريد؟ ولمن أنتمي؟ وماذا قدمت؟ ومن بقي لي ومعي؟ وكيف أعوض ما فاتني؟ وبين دوائر الأسئلة والإجابات نعيد ترتيب أوراقنا وأولوياتنا لميلادنا القادم، ونعود لأنفسنا، ولا يهمنا في ذلك سبب العودة - جانحة كانت أم سانحة - بقدر حمى الوصول إليها.