صانعة المقلوبة الأمريكية وهوية الانتماء
الأربعاء - 20 مايو 2020
Wed - 20 May 2020
لم يكن صراع مشاعر المعلمة الأردنية نانسي عبدو في معهد اللغة الإنجليزية الأمريكي صراعا بسيطا حين سماع صوت الحنين الذي يصدح بقاعة الفصل من طلابها الذين عبروا عن شوقهم لأوطانهم، وحنينهم لأحبتهم بطلبات قد تتحقق على رصيف البائع المتجول الذي يجوب المدينة تحت ما يسمى بأطعمة الشوارع كناية على مكان بيعها.
فتندفع العواطف الكامنة للمعلمة لذلك النداء الهامس، وتستحضر ما نشأت عليه من القيم العربية الأبية: كإكرام الوافد، وتقدير الضيف، لتحقق لهم رغبة جمعهم التفكير فيها. وتبادلها الفكر في لحظتها، فشكلت محورا يجمعهم في مجتمع يعج بالحضارة المادية، والازدهار التقني. ولكنها الأصول القيمية التي تُغرس في الفؤاد منذ نعومة الطفولة، فتشرق وتتجلى حينا من الزمن، لترقى بالنفس وتعتلي بها عن غيرها من المبادئ.
لقد وصلتني رسالة معبرة من قصة المعلمة وطلابها، حيث تجمع الثقافة الغذائية الناس، وتعتبر العادات المجتمعية وسيلة للوصل بينهم حينما تختفي مظاهرها في مجتمع الغربة.
قبل أيام جرى حوار بين متحابين تهنئة بحلول الشهر الكريم، فأفاد أحدهم بأنه سعيد لوصول شحنة من التمر من مدينته، فرد الآخر بأنه متوفر في متاجر المدينة البريطانية التي يسكنان فيها، فكان رد المحب المخلص مدهشا للسامع، والذي أشارككم إياه «لكنه سُقي بماء وطني، وغُرس بتربته، وفيه ريحة أحبابي»، فتبادل المخلصون لوطنهم جرعة وطنية مشاعرية رائعة.
قد لا يشعر بهذا من لم يعش خارج وطنه، ولم يفتقد النسق المجتمعي، والعادات والقيم التي ألفها. تقفز عَجِلَة مشاعر المشتاق فيلتفت يمنة ويسرة بحثا عن صوت سمعه لمتحدث بلغته في حشود متدافعة من الناس. أو لرائحة طعام يمر عليه في طريق ذهابه لعمله من بين الأزقة الضيقة، فيعيد الصورة التي رسمتها الطفولة والشباب لمخيلته، فينسى لحظته لبرهة، ويعود لماض من الذكرى، يسعد به في وقته، ويصنع بهما مجتمعين المستقبل.
فهؤلاء الفتية اليافعون الذين يسعون لبناء أوطانهم بالمهارة والمعرفة والحرف والكلمة حين عودتهم، لسان حالهم الذي وردني من المشهد وإن تمثلت فيه بساطة الأمنيات، وطغيان الروح العربية على المشهد، إلا أن لسان حالهم ومعلمتهم يقول: كم منزل في الأرض يألفه الفتى / وحنينه أبدا لأول منزل.
أو كالقول: ولي قيم آليت ألا أتخلى عنها أينما حلت بي الأقدام ساكنا، وبفؤادي عشق متجذر لثرى وطن ترفرف رايته بين الرايات عاليا.
لا بل! أعجب من نفسي حين تشتاق له، وهي تستقبله في اليوم خمسا. فيه ركن ديني، وطيف إيماني، ونفحة من طَيبة الطِيب تنثر بالروح عطرا.
فساحة المطاف وركن الحرم، والمقام والحطيم أنيس التائب المنقطع! وزمزم البئر غيث الظامئ المستعر! ونفحة الإيمان بين الركن والحجر! وعبرة الداعي بالملتزم! أذكريات ونعم كهذه تنسى وتفقد؟!
أسأل عنك أطياف الضوء، ونسائم الفجر القادمة من الشرق، فيجاوبني على عجل فؤادي وترد أضلعي، وتتبارى رئتاي بأن ما طلبته في دمك يجري.
يا سادة! إنها ليست مجرد أمنيات لأولئك الشباب الذين تمنوا أصنافا من الأغذية المحببة إليهم، ولكنها الرغبة في استرجاع كل ما يحيط بها من شعور الحب والانتماء فتتحقق التضحية من أجل تلك المبادئ الجميلة التي غرست بالمكان. فالحب والانتماء والولاء والإخلاص والتضحية والود والذكريات تأتيك دون التحكم فيها فتطغى على مشاعرك، وتحتويك فتحلق بك، وتزيدك تعلقا بموطنك وإن ابتعد جسدك عنه.
وقد صدق تعبير عبد الرحمن الداخل الأموي حين رأى نخلة زُرعت بأرض ليس بأرضها فتمثل قائلا:
تبدت لنا وسط الرصافة نخلة
تناءت بأرض الغرب عن بلد النخل
نشأتِ بأرض أنتِ فيها غريبة
فمثلك في الإقصاء والمُنتأَى مثلي
سقتك غوادي المُزن في المنتأى الذي
يسحُّ ويستمرِي السِّماكَينِ بالوَبْلِ
alahmadim2010@
فتندفع العواطف الكامنة للمعلمة لذلك النداء الهامس، وتستحضر ما نشأت عليه من القيم العربية الأبية: كإكرام الوافد، وتقدير الضيف، لتحقق لهم رغبة جمعهم التفكير فيها. وتبادلها الفكر في لحظتها، فشكلت محورا يجمعهم في مجتمع يعج بالحضارة المادية، والازدهار التقني. ولكنها الأصول القيمية التي تُغرس في الفؤاد منذ نعومة الطفولة، فتشرق وتتجلى حينا من الزمن، لترقى بالنفس وتعتلي بها عن غيرها من المبادئ.
لقد وصلتني رسالة معبرة من قصة المعلمة وطلابها، حيث تجمع الثقافة الغذائية الناس، وتعتبر العادات المجتمعية وسيلة للوصل بينهم حينما تختفي مظاهرها في مجتمع الغربة.
قبل أيام جرى حوار بين متحابين تهنئة بحلول الشهر الكريم، فأفاد أحدهم بأنه سعيد لوصول شحنة من التمر من مدينته، فرد الآخر بأنه متوفر في متاجر المدينة البريطانية التي يسكنان فيها، فكان رد المحب المخلص مدهشا للسامع، والذي أشارككم إياه «لكنه سُقي بماء وطني، وغُرس بتربته، وفيه ريحة أحبابي»، فتبادل المخلصون لوطنهم جرعة وطنية مشاعرية رائعة.
قد لا يشعر بهذا من لم يعش خارج وطنه، ولم يفتقد النسق المجتمعي، والعادات والقيم التي ألفها. تقفز عَجِلَة مشاعر المشتاق فيلتفت يمنة ويسرة بحثا عن صوت سمعه لمتحدث بلغته في حشود متدافعة من الناس. أو لرائحة طعام يمر عليه في طريق ذهابه لعمله من بين الأزقة الضيقة، فيعيد الصورة التي رسمتها الطفولة والشباب لمخيلته، فينسى لحظته لبرهة، ويعود لماض من الذكرى، يسعد به في وقته، ويصنع بهما مجتمعين المستقبل.
فهؤلاء الفتية اليافعون الذين يسعون لبناء أوطانهم بالمهارة والمعرفة والحرف والكلمة حين عودتهم، لسان حالهم الذي وردني من المشهد وإن تمثلت فيه بساطة الأمنيات، وطغيان الروح العربية على المشهد، إلا أن لسان حالهم ومعلمتهم يقول: كم منزل في الأرض يألفه الفتى / وحنينه أبدا لأول منزل.
أو كالقول: ولي قيم آليت ألا أتخلى عنها أينما حلت بي الأقدام ساكنا، وبفؤادي عشق متجذر لثرى وطن ترفرف رايته بين الرايات عاليا.
لا بل! أعجب من نفسي حين تشتاق له، وهي تستقبله في اليوم خمسا. فيه ركن ديني، وطيف إيماني، ونفحة من طَيبة الطِيب تنثر بالروح عطرا.
فساحة المطاف وركن الحرم، والمقام والحطيم أنيس التائب المنقطع! وزمزم البئر غيث الظامئ المستعر! ونفحة الإيمان بين الركن والحجر! وعبرة الداعي بالملتزم! أذكريات ونعم كهذه تنسى وتفقد؟!
أسأل عنك أطياف الضوء، ونسائم الفجر القادمة من الشرق، فيجاوبني على عجل فؤادي وترد أضلعي، وتتبارى رئتاي بأن ما طلبته في دمك يجري.
يا سادة! إنها ليست مجرد أمنيات لأولئك الشباب الذين تمنوا أصنافا من الأغذية المحببة إليهم، ولكنها الرغبة في استرجاع كل ما يحيط بها من شعور الحب والانتماء فتتحقق التضحية من أجل تلك المبادئ الجميلة التي غرست بالمكان. فالحب والانتماء والولاء والإخلاص والتضحية والود والذكريات تأتيك دون التحكم فيها فتطغى على مشاعرك، وتحتويك فتحلق بك، وتزيدك تعلقا بموطنك وإن ابتعد جسدك عنه.
وقد صدق تعبير عبد الرحمن الداخل الأموي حين رأى نخلة زُرعت بأرض ليس بأرضها فتمثل قائلا:
تبدت لنا وسط الرصافة نخلة
تناءت بأرض الغرب عن بلد النخل
نشأتِ بأرض أنتِ فيها غريبة
فمثلك في الإقصاء والمُنتأَى مثلي
سقتك غوادي المُزن في المنتأى الذي
يسحُّ ويستمرِي السِّماكَينِ بالوَبْلِ
alahmadim2010@