مرزوق تنباك

الحرب العالمية الثالثة

الثلاثاء - 14 أبريل 2020

Tue - 14 Apr 2020

في النصف الأول من القرن العشرين خاض العالم حربين طاحنتين سميتا بالحربين العالميتين، بينهما أقل من عشرين سنة وانتهتا قبل منتصفه، مر على أولاهما مئة عام أو تزيد، ذاق الناس فيهما طعم الجوع والخوف والهزائم والشتات وانتشرت الأمراض وعمت البلوى جميع الأقطار ومات فيهما أكثر من مئة مليون من البشر.

أعقبتهما سبعون سنة أو تزيد على انتهائهما والعالم كله يتذكر شناعة تلك الحروب ويتألم لما حدث فيها من قسوة ووحشية، كانت آخر تلك الوحشية القاسية ضرب اليابان بالقنابل الذرية التي أنهت الحرب لصالح الغرب. لكن ما النتائج التي ترتبت عليهما؟

لقد أجمع العالم على فظاعتها وتداعت دوله المنتصرة والمهزومة منها على وضع المعاهدات الدولية والاتفاقيات الأممية التي تضمن السلام وتنصف المظلوم وتحافظ على استقلال الدول وحقوق الناس، كانت الحربان مؤلمتين، لكنهما تمخضتا عن نتائج مريحة في صالح الناس كافة، حيث أوقدت ذكرى الحروب الهمم وأيقظت العقول وحركت العواطف لتجنب المآسي، وأصبح شبح ذكرها يبعث الخوف ويدفع لتجنب أسبابها والبعد عنها ويدعو للسلام ويشرع للأمن.

أما الأهم من ذلك، فقد تفرغ العالم للإبداع والتطوير والتصنيع، وتفجرت ملكات العقول عن ثورة معرفية هائلة لم يعرف مثلها التاريخ البشري في ماضيه، كانت السنوات التي أعقبت الحرب الثانية ثورة هائلة، ثورة في الصناعة، وثورة في العلم والاختراع، وثورة في التعاون بين الدول، وثورة في طلب السلم وتجنب القتال وأسبابه، وثورة في المعارف العامة والاختراقات الهائلة للطبيعة وما وراءها، وأهم من كل ذلك ثورة الاتصالات بكل أنواعها، تلك الثورة التي جعلت العالم قرية واحدة.

وحققت من التواصل والتكاتف ما نحن فيه اليوم من مشترك الأهداف والأغراض والمصالح عالميا، ولعل انتشار مرض كارونا اليوم ومعرفة العالم به في حينه نتيجة لهذا التواصل الذي جمع الناس ووحدهم لمحاربة المرض وجعلهم جميعا في حرب ثالثة معه. كان من المتوقع أن تحدث حرب عالمية ثالثة على نمط الحروب التقليدية المعروفة، وحدثت فعلا لكن بين الناس كافة ومخلوقات الله الخفية والأمراض الوبائية.

هذه الحرب الثالثة بدأت واستبدت، فخلت المدن وحبس الناس في منازلهم في جميع أرجاء المعمورة، ولم تبق دولة ولا مدينة لم تكن في حرب قصوى مع المرض، وها هو العالم كله في حرب معه، متحدا في قتاله ومحاولا الانتصار عليه مع اختلاف طبيعة الحربين السابقتين وهذه الحرب الثالثة، والفرق بينها أن الحروب القديمة كانت بين البشر ينتصر فريق ويهزم آخر، أما الحرب العالمية الثالثة التي يخوضها العالم هذه الأيام فحرب مع مخلوقات لا يراها من يحاربها ولا يعرف مكامن قوتها ولا الجيوش التي ترسلها، ولا شك أنه سينتصر في النهاية لكن ما الثمن الذي سيدفعه حتى يحقق النصر سريعا؟ وما النتائج التي سيتمخض عنها الانتصار المرتقب؟

لن يموت في الحرب العالمية الثالثة مئة مليون إنسان كما حصل في الحربين السابقتين، لكن ستمحو هذه الحرب مئة تريليون من الاقتصاد العالمي أو تزيد، وستكون فجيعتها في المال أكثر من فجيعتها في الأنفس، وكما يقال المال صنو النفس، والأمل أن يكون في انتهائها مراجعة للنظام المالي العالمي، وكبح تغول الشركات العالمية عابرة القارات التي أصبحت تسحق بثرواتها وجشعها وقدراتها المالية الإنسان الفرد والجماعة، حتى الدول صارت في قبضة الشركات الأممية، فلعل وعسى أن يراجع العالم بعد انتصاره على الوباء سياسته المالية، كما راجع في نهاية الحرب الثانية أهمية احترام أمن الإنسان وكرامته وعمل على حفظ الحقوق العامة والخاصة، ولعل وعسى.

Mtenback@