عبدالله سالم الحميد

كوابيس كورونا وإنسانية العزلة

الثلاثاء - 31 مارس 2020

Tue - 31 Mar 2020

صحوت في طفولتي البريئة ساكنا مع أهلي في بيت من الطين بحي المربع بالرياض، ولم تكدر صفو حياتنا هواجس التجديد والتحديث لتقارب الأحوال بيننا وبين المماثلين من الجيران إلى أن تفتحت تجليات الحياة وتباعدت الخطى، وشرعت عواصف التغير والتحديث تتدخل في صياغة الأحلام والتطلعات، متلهفة شوقا إلى سكنى (عزلة) تتوفر فيها إضاءات الكهرباء وركن التلفزيون التي أخذت الناس من تطويقات العزلة وأشرعت لهم نوافذ أخرى نحو عوالم أخرى.

(والعزلة - في العرف - السكن المسلح) وانطلقت مع ارتقاء سلالم درجات التعليم وآفاق القراءة والمعرفة نماذج وألوان شتى فتحت أبواب الطموحات وانشطارات الأحلام إلى مسارب الثقافة والأدب التي ما إن توثق عرى التلقي واللقاءات الحميمية إلا وتجعل من العزلة فلسفة تأخذك إلى تجليات الوعي والتأمل والاندماج مع أجواء الفكر بحثا عن مستويات من الصفاء والمعرفة والرقي في فنونها المختلفة توثق أبعاد المعاني ووعي المسؤولية لدور الإنسان في هذه الحياة.

وتنسرد سلسة ذكريات العزلة وتداعياتها عبر مراحل الشباب، ومرافئ العمر غارسة آثار بصماتها وتراكماتها على النفس والوجدان، عبرت الهواجس عن معاناتها بعد أصداء نكسة 1967، وما خلفته من تجرع مرارة الهزيمة وقسوتها على مشاعر الشعوب ونفوسهم ووجدانهم على مدى ست سنوات مسكونة بالألم والحزن والأسى.

وقد أدركت بعد تلك السنين العصيبة أشتاتا ذات طعم ولون وبعد مختلف من أطياف العزلة في القاهرة أيام حرب العاشر من رمضان1393هـ - 6 أكتوبر1973م، وعشت برفقة والدي - رحمه الله - أياما تمتزج فيها نشوة النصر وعواصف الخوف من القصف مع كل انطلاقة

لصفارات الإنذار وقهقهة الطائرات المنطلقة من القواعد الجوية بالقاهرة إلى أرض المعركة على خط بارليف على الحدود مع العدو الصهيوني.

وعلى أصداء البيانات الإعلامية تحركت مشاعر الكتاب والشعراء والمؤرخين معبرة عن تلك الأحداث وانعكاساتها وتأثيرها على وجدان الشعوب العربية والإسلامية.

وتتفجر من أحضان العزلة إبداعات الروائيين والشعراء والأدباء والفنانين والمؤرخين والراصدين المتأملين عبر أعمال روائية ودواوين وقصص، ولوحات تعبيرية تنسج أصداء الأحداث وتجلياتها المتفاقمة بما شهدته من تحولات مدهشة.

تنبثق تلك الرؤى مع كل حدث شهدناه في وطننا ومجتمعنا وفي الوطن العربي والإسلامي. أحداث تتصل و تتواصل مشاهدها مثل القوافل،عابرة من أحداث 6 أكتوبرإلى عزلة مصر بعد توقيع الرئيس أنور السادات "معاهدة الصلح مع العدو الصهيوني"، ثم أحداث اقتحام الحرم المكي الشريف، إلى أحداث أفغانستان التي أخذتنا في حمم تداعياتها، وما تبعها من أحداث اقتحام صدام حسين للكويت 1990، وعاصفة الصحراء التي حررت الكويت، ثم غزو العراق بشن الحرب عليها من أمريكا وبريطانيا، وإسقاط حكومتها في [ 20 مارس 2003 ودخول العراق في عزلة قسرية مؤلمة.

صور شتى من ألوان الإرهاب الدولي تتفاقم فيها عواصف البغي والطغيان والغطرسة والكبرياء وعشق الاستحواذ والسيطرة، كانت نتيجتها أشلاء من الدماء والشتات والفرقة والتدمير لإنسانية الإنسان ومعنى وجوده في هذه الحياة .

وما كادت تخمد جذوة الحرب في العراق حتى قامت زوبعة الربيع العربي في تونس وليبيا ومصر، ثم اندلعت الثورة في اليمن بدعم من إيران للحوثي، مما اضطر حكومتها للاستنجاد بجارتها المملكة العربية السعودية فانطلقت عاصفة الحزم لردع المعتدين، وتقويض أطماع الفرس وكبح جماح مشروعهم، ووقف تجاوزاتهم العنيفة.

أحداث شرسة متتابعة متفاقمة في العالم العربي، بعد تغير الحكومات في تونس ومصر وليبيا والسودان، واعتراف أمريكا بالقدس عاصمة لدولة الكيان الصهيوني المحتل، وأحداث سوريا ولبنان، كلها كانت لها تأثير على الأحوال والأوضاع، وما يشهده العالم من تحولات وتحديات مدهشة في الاقتصاد والسياسة تجاوزت حدودها بالتحديات ورغبة الاستحواذ والطغيان.

وأخيرا تنطلق أحداث جائحة كورونا متمثلة في فيروس صغير يقتحم أجواء العالم وفضاءاتها، ويسرق كل الأضواء، ويعصف بعنفوان أدعياء البغي والبطش فيزلزل أركان تفكيرهم ويقتحم آفاق تدبيرهم ليحدث الرعب والخيبة والذهول، فيختل التوازن، وتنفلت عرى السيطرة من بين أيديهم.

أعاصير من الدهشة والذهول لم تخطر في دائرة الحسبان والاستعداد لحظنا على الرغم من استنفار حالات الطوارئ أن آثارها عميقة ومدهشة بفتكها وقسوتها وسرعتها في إيطاليا وإسبانيا وفرنسا وبريطانيا، وأمريكا التي تجاوزتهم في عدد الحالات على الرغم مما أثير في إعلامها أنها بدأت شرارتها من الصين.

جائحة كورونا اقتحمت فضاءات العالم وقوضت مراكز القوة والجبروت، وجابهت الطغيان والتحدي، وكسرت شوكة العنفوان والكبرياء والاستعلاء، مبرهنة على قدرة الخالق على بيان ضعف الإنسان وتضاؤله أمام قوة الله وقدرته سبحانه.

أمام تداعيات فيروس كرونا وما أحدثه من ﻫﻢ ورعب وفتك ودهشة وذهول، وتساؤلات عن كونه وهما، أوتدبيرا، أو غاز السارين الأمريكي إشعاعا (حربا بيولوجية) أو كيدا إنسانيا! وغير ذلك!

على الرغم من كل ذلك لا بد من الاستفادة من العبرة والتغيير في التفكير والنظرة الإنسانية.

العزلة فرصة مناسبة للتأمل والتدبر بعمق في شؤون الحياة، مصطحبين معنا للمعرفة خير جليس لنتمكن من توثيق هذا الحدث المعاصر.