هبة زهير قاضي

العائدون إلى حيث لا يعود الآخرون

الأربعاء - 29 يناير 2020

Wed - 29 Jan 2020

وقعت على الفيديو بالصدفة، صدفة أعتبرها من أجمل الصدف في 2019.

كيف لا وقد اندمجت بكل حواسي في مشاهدة تلك الفتاة النحيلة وهي تحصد رؤوس الملفوف والبطاطا الحلوة، وتطبخ يخنة الخضار باللحم المملح، وتصنع طقم جلوس كامل من سيقان البامبو، وغيرها من القدرات والمواهب التقليدية المنفذة بطرق إبداعية، في أجواء طبيعية ساحرة ومؤثرات صوتية تدعو للشعور بالاسترخاء والمتعة، كل ذلك أدى لوصول المشاهدات على فيديوهاتها إلى 40 مليون مشاهدة، ونحو تسعة ملايين مشترك في قناتها على اليوتيوب، متجاوزة بذلك قناة CNN الإخبارية!

البداية كانت حين قررت (ليزيج Liziqi) أن تبدأ عمل فيديوهات تدوينية vlogging تستعرض فيها حياتها في منطقة زراعية في الصين، وذلك من خلال التركيز على جمال الطبيعة، زراعة الأرض، الطبخ وصناعة الأشياء على طريقة الصينيين القدماء. ومن ثم كان النجاح منقطع النظير والانتشار الناري الذي تعدى حدود الصين ليشمل العالم كله، ولتصبح فيديوهات ليزيج ملاذا للمتعة، والراحة والاسترخاء لملايين البشر الرازحين تحت ضغوط المدنية وإيقاع الحياة السريع.

روعة فيديوهات ليزيج ونجاحها وتعليقات الناس عليها سواء من الصين أو من بقية أنحاء العالم، جعلتني أنتبه لفكرة (العودة). وأقصد بها العودة في مفهومها الذي يتمثل في إعادة الوصل والتواصل مع الأشياء الأصلية والحقيقية في حياتنا مثل الجذور العرقية، الأرض، القرية، المدينة، العائلة، اللغة واللهجة، أساليب الحياة والعادات، الثقافة، موهبة الطفولة، تجربة ممتعة سابقة، شخصية مميزة، هواية قديمة، ومن ثم إعادة تجديدها وإحيائها بمزجها بمقومات العالم اليوم وإعادة إطلاقها.

حين تنبهي لهذه الفكرة بدأت ألاحظها في تجارب وقصص مميزة كثيرة. مثل الطاهي العالمي السويديMagnus Nilsson الذي جال العالم هربا من محدودية وبرد بلاده، ليعود بعد سنوات لمنطقته النائية ويفتح فيها واحدا من أشهر مطاعم العالم الحاصلة على ثلاث نجوم ميشلان، وحيث الناس تسافر خصيصا عبر قائمة محجوزة لعام سلفا للاستمتاع بتجربته الفريدة في الطبخ، والتي هي خليط من تجارب عالمية ومنتجات وأصالة محلية.

مثال محلي لتألق ونجاح الرواية الوحيدة للكاتب الصحفي الذي يعيش بفرنسا أحمد أبودهمان (الحزام)، التي قص فيها عن حياته في قريته الجنوبية في منطقة عسير. وقد كتبها ونشرها بداية باللغة الفرنسية، معرفا الفرنسيين بصدق وشفافية بنفسه وجذوره والمكان الذي جاء منه، والذي نتج عنه نجاح قوي للرواية وأدى لترجمتها لثماني لغات، وإلى إعادة كتابتها من قبل الكاتب للغة العربية، لتصبح أول رواية من شبه الجزيرة العربية تؤلف بالفرنسية.

من أجمل ما استشعرته في مفهوم (العودة) هو ما لاحظته من سعادة، وراحة نفسية، وشعور بالقيمة الذاتية وتصالح مع النفس والمحيط، والذي أدى بالتالي للتميز، والإنجاز والنجاح ولو على مستوى الفرد وذاته. إن هذه الحالة المتوازنة والراسخة من أكثر المفتقدات في عالمنا اليوم الذي تسوده حالة التشتت، والحيرة، والضغط والقلق، بسبب سعينا الحثيث والدائم للتواؤم، والمجاراة، والتحقيق والتميز. والذي بالتالي يؤدي إلى الهجرة، الهجرة من الريف إلى المدينة، الهجرة من المدينة إلى العاصمة، والهجرة من بلادنا إلى بلاد الله الواسعة، وقياسا عليها هجرة الجذور، والأصالة، واللغة، والعادات، والنكهات ومكتسبات حضارية وثقافية وفكرية تجري منا مجرى الدم، ومتغلغلة في عمق خلايانا وحمضنا النووي.

هل يعني ذلك أن نقبع حيث نحن ولا نتطور ولا نتعلم، ونعيش حياة أجدادنا وأسلافنا بما فيها من عيوب، وعدم تواؤم مع العصر الحديث؟ بالطبع العودة في مفهومها الذي أصفه لا تعني ذلك مطلقا.

هي فقط تعني أن تتطور وتتعلم وتستكشف ثم تدمج ذلك وتطعمه وتستثمره مع أصالتك الشخصية أو المجتمعية لتصنع فرصا، ومجالات، وأشياء جديدة تفيدك، تفيد ما عدت إليه، وتخلق في العالم مساحات وآفاقا مستحدثة تتآلف فيها أصالة الجذور وثوابت التاريخ مع سنة التحول، الانبعاث والتجددية التي تساعد على البقاء والاستمرار والفعالية الإنسانية.

وليس أفضل من مقولة T. S. Eliot للتعبير عن مفهوم العودة حين قال «ونهاية كل بحثنا ستكون بوصولنا للمكان الذي بدأنا منه والتعرف عليه للمرة الأولى».

HebaKadi@