صالح عبدالله كامل

رحمك الله.. عصمت ناظر

السوق
السوق

الثلاثاء - 21 يونيو 2016

Tue - 21 Jun 2016

سبحان القائل: (كُلُّ نَفْسٍ ذَآئِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَمَن زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَما الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلاَّ مَتَاعُ الْغُرُورِ) آل عمران 185.

والصلاة والسلام على الحبيب القائل: «أكثروا ذكر هادم اللذات، فإنه ما ذكره أحدٌ في ضيق العيش إلا وسعه عليه، ولا في سعة إلا ضيقه عليه».

والمراد إن كنت غافلاً مع السعة ذكّرك الموتُ بمغادرة الدنيا، وإن كنت في ضيق مع القلةِ فإن ذكرك الرحيل إلى الآخرة ينسيك ما أنت فيه.

ورضي الله عن الإمام عليّ كرّم الله وجهه وهو ينشد عن الموت فيقول:

النفس تبكي على الدنيا وقد علمت

أن السعادة فيها ترك ما فيها

لا دار للمرء بعد الموت يسكنها

إلا التي كان قبل الموت بانيها

فإن بناها بخير طاب مسكنُهُ

وإن بناها بشرٍّ خاب بانيها

بالأمس ودعت راحلاً آخر، وغيَّب الحق أخاً آخر، ووارى الثرى عزيزاً آخر، وهو خالٌ حبيبٌ لأولادي. ربما لم يكن يرحمه الله معروفاً لكثير من الناس.. لكن عصمت محيي الدين ناظر كان نجماً أستنيرُ بِهِ حين يتعلق الأمر بالتقوى والأخلاق، وكان قمراً ساطعاً في أهله ومعارفه حين يتصل الأمر بصِلةِ الرَحِم والأقارب، وكان مجلساً راقياً لا يُغتَابُ أحدٌ فيه، ولساناً واقياً لا يعرف مفردات الشتم ولا اللعن والطعن، كان يحيا بين الناس ككل الناس، ولكنه لا يسمح لنفسه أن يتدخل فيما لا يعنيه، أو ليسَ من حُسنِ إسلام المرء تركه ما لا يعنيه. وسبحان من حفظه في حياته على طولها من كثير من النقائص التي ملأت للأسف كثيراً من جوانح الناس، وازدانت حياتهم قصوراً ونفوراً. ولا أظن موتتهُ التي غادر بها هذه الحياة، إلا زيادةً في فضل الله عليه، وعلامةً من علامات القبول المبشرة للنفس المؤمنة المطمئنة. كان ينتظر إفطار يوم الاثنين، وكان يقرأ القرآن كعادته وكان بينه وبين الإفطار دقائق معدودة، وكانت رفيقة حياته زوجته في مطبخها آتيةً إليه بالقهوة والتمر.. - ليفك الريق معها- وما إن وصلت إليه إلاّ وقد فارق الحياة.. وكأنما هو آثَرَ أن يلقى ربه صائماً، وأن يودع الدنيا وهو صائم لله، فالصوم له وهو يجزي به، وهذه والله موتةٌ أُشهِد الله أني أتمناها، لا أقول العام القادم، أو رمضان القادم، ولكنني أقول هذا العام ورمضان هذا، راجياً أن يتقبلني الله برحمته وإحسانه، وبفضله وغفرانه، وأنا أعلم علم اليقين، أنني مهما عملت لأشكر الله حقَّ شكره على آلائه ونِعَمِه فلَن أوفّي شيئاً من هذا حقه، وكل ما أفخر به في هذه الحياة أنني قد عشت لا أشرك بربي أحداً شاهداً أن محمداً عبده ورسوله عليه الصلاة والسلام.

ورغم كل ما يصاحب مراسم العزاء وتشييع الأعزاء فالأمر لا يخلو من شؤون وشجون.. وكم تنال نفسي بعض العزاء في سرادق العزاء.. حين ألتقي ولو في جوٍّ حزين بوجوهٍ غابت عن عين السنين، بحكم مشاغل حياته وحياتي.. منهم من يصغُرني سناً بقليل، ولكن أحواله الصحية تدفعني لحمد الله كثيراً على ما أنا فيه.. فيكسبني هذا أجراً جديداً، لكنه لا يُنقص من أجورهم وقد تحاملوا على مرضهم وأبوا إلا تقديم واجب العزاء.. منهم من جاء على كرسيه المتحرك، ومنهم من تقوده عصاه إلى مقعده، والبعض جاء مصحوباً بابن أو مساعدٍ ليشارك ويتمنى الرحمة للراحل الكريم، ولآله وذويه الصبر والسلوان، وهي عادة حجازية قديمة تُجسّد التراحم والصلة والود بين الناس على مدار ثلاثة أيام، ويُعملُ فيها بوصية المصطفى عليه الصلاة والسلام حين توفى الله جعفراً، فقال الحبيب: «اصنعوا لآل جعفر طعاماً»، وكأنه صلى الله عليه وسلّم، يستشرف معاناة أهل المتوفى من حزن وألم، وحرمان ووداع.. وربما لم يكونوا مستعدين للآلام ثلاث ليال.. فجرى العُرف اتباعاً لهذا التوجيه النبوي الكريم بأن لا يتكلف أهل الميت شيئاً غير وقوفهم في صفوف العزاء وغير الدموع. ويتحول المُصاب إلى ملحمة تكاتف وتعاضد، ولوحة إيمانية دائمة، لا بد لكل عين فيها أن تقرأ العبر ولكل قلب أن يستشعر العظمة، فالموتُ حق، وهو ليس نهاية الدنيا بل هو بداية الدار الآخرة، (وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى).

وكم هو جميل ما أشاهده في مراسم العزاء، حين يصطحب الآباء أو الأجداد أبناءهم وبعضهم في الثامنة من عمره، والأجمل أنه لا يتقدمهم بل يدفع بهم أمامه غير بعيد ليراقب ماذا يصنعون وكيف يتصرفون، فإن أحسنوا أشاد بهم، وإن قصّروا علمهم وأرشدهم.. حتى لا يتركهم وهم على غير هدى في مثل هذه المواقف. وليس في العزاء فقط، ولكنني أقول دائماً: ادفع بأولادك إلى معترك الحياة، وراقبهم ووجههم في حياتك، سواء في تجارة أو عمل خاص، حتى تقرّ عينك بهم وحتى تنمو ثقتهم في ذاتهم، فلا مانع أن يخطئ الابن أو الحفيد ولهُ على قيد الحياة أبٌ يتابع أو جدٌ يراقب. فليس في هذه الدنيا أحدٌ يُحِبُ لأحد أن يكون خيراً منه، إلا أبٌ يتمنى هذا لولده أو جدٌ يرجوه لحفيده.

زمان، (يعني من خمسين أو أربعين سنة)، فكرّت أن أساهم بفكرة تعين أهل المتوفى، فكرت أن أنشئ شركة لتجهيز الموتى، تَحمِل عن أهلهم همّ استخراج تصاريح الدفن، والتغسيل والتكفين والدفن.. ولكنني توقفت حين جاءني واحدٌ من الناس وقال لي: «يا صالح ما خليت شيء إلا تبغى تسويه؟» فألغيت الفكرة.. ولكن اليوم أصبحت هناك هذه النوعية من الشركات التي تنال مع شيء من تغطية نفقاتها الكثير من الأجر والثواب، وبعضها خيرية خالصة لوجه الله، جزاهم الله خيراً.

وأتذكر أن الفكرة قد راودتني زمن المهندس محمد سعيد فارسي متعّه الله بالصحة والعافية، يوم كان أميناً لمدينة جدة، وكان نِعم الأمين، وقررنا أن نسمي الشركة «وحّدوه» لا إله إلا الله.

أسأل الله في هذه الأيام المباركة الكريمة أن يتغمد موتانا بواسع رحمته وأن يسكنهم فسيح جناته، وأن يعاملهم ويعاملنا إذا صرنا إلى ما صاروا إليه بفضله وجوده وكرمه، وليس بأعمالنا، فقُدرَتُه ولُطفُه يفُوقان كُلَّ ما قدمنا. ولا نملك سوى أن ندعو لهم بما دعا به النبي الحبيب عليه الصلاة والسلام للميت من المسلمين «اللهم اغفر له وارحمه، واعفُ عنه، ولقّه الأمن والبشرى والكرامة والزلفى، اللهم إن كان محسناً فزد في حسناته، وإن كان مسيئاً فتجاوز عن سيئاته، اللهم أبدله أهلاً خيراً من أهله، وداراً خيراً من داره، وجيراناً خيراً من جيرانه، اللهم لا تحرمنا أجره، ولا تفتنّا بعده، واغفر لنا وله».

ولا حول ولا قوة إلا بالله، وإنا لله وإنا إليه راجعون.