مفلح زابن القحطاني

التراث.. حين يُقرأ بوعي

الجمعة - 20 مايو 2016

Fri - 20 May 2016

ينطلق أغلب المتخصصين في مجالات العلوم الإنسانية عموما والدراسات اللغوية والأدبية والنقدية خصوصا من منطلقين واتجاهين متباينين، يتمثل أحدهما في الانكفاء على التراث فحسب دون أي عناية تذكر بالتطورات العلمية الحديثة في المجال، مهما كانت أهميتها ومهما بلغ مستوى تقدمها، ويتجسد الاتجاه العلمي الآخر في العناية بالنظريات الحديثة، والانطلاق من أنها لا أساس لها في التراث؛ لأن هذا الصنف ينقصه التأصيل التراثي الرصين، فهو يعد كل شيء يقرؤه أو يطلع عليه جديدا، ولو كان قديما ومتأصلا في ثقافته وتراثه.

وقليل جدا من المتخصصين في هذه المجالات المعرفية المهمة من استطاع أن يكوّن منهجا علميا متكاملا، وأن ينطلق من تأسيس تراثي علمي وثقافي رصين وتكوين معرفي حديث، ويجمع بين الأمرين، وهذا الصنف تتميز كتاباتهم وطروحاتهم العلمية برصانة وثقة؛ إذ إنها نتاج عقول قرأت التراث بكل دقائقه وتفاصيله، واستوعبت المعطيات المعرفية الجديدة في مجال الاختصاص.

والناظر إلى عدد غير قليل من الدراسات في هذه المجالات يجد تجنيًا على التراث وظلما عظيما له؛ حيث تُبتسر الأحكام، وتنسب كثير من النظريات إلى باحثين معاصرين، ويتهم التراث العربي بعدم وجود هذه المعطيات فيه، وقصوره في هذا المجال، في حين نرى كثيرا من المعطيات اللغوية والأدبية والنقدية الحديثة على نحو خاص ليست سوى توصيفات وتسميات جديدة بطريقة تنظيمية حديثة، ومفاهيمها، وأصولها وتطبيقاتها موجودة بعمق في تراثنا، ولا جديد سوى توصيفها وتنظيمها وتسميتها بطريقة حديثة، وربما فاقت هذه الأصول التراثية ما وصلت إليه النظريات الحديثة في بعض تصوراتها ومفاهيمها.

ما دعاني إلى كتابة هذه السطور رسالة لغوية تراثية اطلعت عليها، وهي للعالم اللغوي الأندلسي أبي محمد عبدالله بن محمد بن السيد البطليوسي النحوي المتوفى سنة 521هـ، وقد قرأتُ هذه الرسالة، فوجدتُ ابن السيد اتَّبع فيها منهجا علميّا يتسم بالرصانة والعمق والموضوعية، وقد أذهلني أحد ملامح التحليل اللغوي ذات الأهمية عند ابن السيد البطليوسي في هذه الرسالة وهو السياق، حيث اعتمد على السياق اللغوي بمستوياته المتعددة في تحليلاته اعتمادا كبيرا، كما عُني بقصد المتكلم وسياق الموقف وملابسات النص والسياق الثقافي.

وبالنظر إلى رسالة ابن السيد هذه يتجسد بصورة واضحة توظيف المؤلفِ السياقَ – وخصوصًا اللغوي – في معالجاته اللغوية، وهو توظيف لم يخرج عن حدود الموضوعية، ودائرة الاستدلال العلمي غير المتمحل.

وتؤكد هذه الرسالة – وغيرها في التراث العربي كثير – أهمية أن يعيد بعض اللغويين المحدثين - وخصوصا من احتفوا بالنظريات الحديثة احتفاء يتجاوز الحد، وعدُّوها نظريات جديدة تماما على التراث اللغوي العربي، واتهموا الدرس اللغوي العربي بعزل المكونات اللغوية عن سياقها - النظر في هذا الاتجاه؛ فالدرس اللغوي العربي غني تماما بمكونات هذه النظريات، وممارسات اللغويين القدماء تؤكد هذا، وما أحوجنا إلى أن نعيد قراءة تراثنا بوعي وموضوعية.

[email protected]