التصحيح الديني.. أم التنوير؟
الخميس - 19 مايو 2016
Thu - 19 May 2016
في مقالات سابقة طرحت خيارات (التصحيح الديني) للموروث، ولو - كبداية - في أبسط الاجتهادات والآراء التي شكّلت لاحقا مدارسَ وجماعاتٍ دينية ظلّت وفيّة لذلك الموروث، وتستقي منه الدعم الأيديولوجي اللازم لتسييل لغة الخطاب التسويقي، خصوصا حين يتكئ على ذلك الامتداد التاريخي للاجتهادات والآراء التي نعنيها هنا بالموروث.
الجدل لا يزال مستمرا الآن في الضفة الأخرى، ضفة التطلّعات (التنويرية) التي لا تتكئ على تلك التصورات التراثية، وتجادل في أن مسألة التصحيح المفترضة هي ضربٌ من الخيال ولا يمكن أن تحصل، وأن الخيار الحتمي هو التنوير الذي أنقذ أوروبا وقدم لها الحل ووضعها على قارعة الطريق الحضاري والإنساني.
حتمية تلك الحقيقة التاريخية (السُننية) أعتقد بها أنا أيضا، إلا أنني أؤمن كذلك بأن التصحيح المفترض قد يحل قضايا وقتية عالقة وملحّة، ليس في الإمكان الانتظار لعشرات السنين كي تهضمها مجتمعاتنا التي تنام اليوم على صفيح ساخن، قضايا التعايش، والتكفير، وأنسنة الأفكار واللغة الدينية، والتصالح مع الآخر ومع الذات، كل ذلك يمكن البدء به الآن، وفي تصوري أن عملية التصحيح الديني كحالة مرصودة عبر التاريخ هي حقيقة ثابتة أيضا، إلا أن الرؤية (المنطقية) للأمور يجب أن تكون شاملة كامل إطار الصورة؛ من أجل تقييم أكثر منطقية أيضا.
سنأخذ الآن أمثلة يمكن اعتبارها أنها (تصحيح ديني) من وجهة نظر أتباع تلك الحالة الدينية أنفسهم، وهي في الحقيقة انقلابات شكّلت انعطافات حادة ضمن مذهب واحد، وهو هنا المذهب الحنبلي كمثال، فالحنابلة الأوائل لم يكن لديهم مشكلة في التبرك بالقبور، وهنا يقول عبدالله بن أحمد بن حنبل راويا عن أبيه: (3243 - سألته «أي أباه» عن الرجل يمس منبر النبي صلى الله عليه وسلم ويتبرّك بمسّه ويفعل بالقبر مثل ذلك أو نحو هذا يريد بذلك التقرب إلى الله جلّ وعز، فقال: لا بأس بذلك) انظر: العلل ومعرفة الرجال، أحمد بن حنبل، تحقيق: وصي الله محمد عباس، الأثر رقم 3243 ص 492 دار الخاني ط2.
استمرّ هذا المفهوم حتى جاء ابن تيمية، وهو من حنابلة دمشق، فقلب ذلك المفهوم كليا حين قال: (وأما التمسح بالقبر – أي قبر كان – وتقبيله، وتمريغ الخد عليه فمنهي عنه باتفاق المسلمين، ولو كان ذلك من قبور الأنبياء، ولم يفعل هذا أحد من سلف الأمة وأئمتها، بل هذا من الشرك) انظر: حكم زيارة القبور والاستنجاد بالمقبور، ابن تيمية، ص54 دار طيبة.
حنابلة دمشق المتأخرون اعتبروا أن هذا من (التصحيح) الذي قدّمه ابن تيمية، إلا أن ابن تيمية نفسه لم يلبث أن مورس عليه ذات التصحيح بعد زمن، ففي كتابه (الكلم الطيب) وفي باب (إذا خدرت الرِجْل) يقول ابن تيمية: (عن الهيثم بن حنش قال: كنا عند عبدالله بن عمر رضي الله عنهما، فخدرت رجلُه، فقال له رجل: اذكر أحب الناس إليك، فقال: يا محمد، فكأنما نشط من عقال). انظر: الكلم الطيب، ابن تيمية، ص 96 دار الفكر اللبناني - ط1. ولاحقا سيظهر أتباع الشيخ محمد بن عبدالوهاب وتلاميذه ليعتبروا أن قول (يا محمد) هو من الشرك؛ كونه استغاثة بميت لا ينفع ولا يضر.
هذه العملية التسلسلية من النقض التراكمي للأفكار وانعطافاتها بحسب الوعي الزمني، واحتياجه الظرفي، تجعلنا نقرّ بإمكانية وعدم صعوبة التصحيح لأخطر تلك الأفكار التي جاءت في نفس ذلك الامتداد في نفس تلك الكتب وغيرها، ألا وهي عبارة: (يستتاب، فإن تاب وإلا قُتل)، العبارة الأكثر شيوعا والتي تحتاج أكثر من غيرها – وفي مثل هذه الظروف – إلى تقليبها وتمحيصها، بل وتأمل مخرجاتها.
[email protected]
الجدل لا يزال مستمرا الآن في الضفة الأخرى، ضفة التطلّعات (التنويرية) التي لا تتكئ على تلك التصورات التراثية، وتجادل في أن مسألة التصحيح المفترضة هي ضربٌ من الخيال ولا يمكن أن تحصل، وأن الخيار الحتمي هو التنوير الذي أنقذ أوروبا وقدم لها الحل ووضعها على قارعة الطريق الحضاري والإنساني.
حتمية تلك الحقيقة التاريخية (السُننية) أعتقد بها أنا أيضا، إلا أنني أؤمن كذلك بأن التصحيح المفترض قد يحل قضايا وقتية عالقة وملحّة، ليس في الإمكان الانتظار لعشرات السنين كي تهضمها مجتمعاتنا التي تنام اليوم على صفيح ساخن، قضايا التعايش، والتكفير، وأنسنة الأفكار واللغة الدينية، والتصالح مع الآخر ومع الذات، كل ذلك يمكن البدء به الآن، وفي تصوري أن عملية التصحيح الديني كحالة مرصودة عبر التاريخ هي حقيقة ثابتة أيضا، إلا أن الرؤية (المنطقية) للأمور يجب أن تكون شاملة كامل إطار الصورة؛ من أجل تقييم أكثر منطقية أيضا.
سنأخذ الآن أمثلة يمكن اعتبارها أنها (تصحيح ديني) من وجهة نظر أتباع تلك الحالة الدينية أنفسهم، وهي في الحقيقة انقلابات شكّلت انعطافات حادة ضمن مذهب واحد، وهو هنا المذهب الحنبلي كمثال، فالحنابلة الأوائل لم يكن لديهم مشكلة في التبرك بالقبور، وهنا يقول عبدالله بن أحمد بن حنبل راويا عن أبيه: (3243 - سألته «أي أباه» عن الرجل يمس منبر النبي صلى الله عليه وسلم ويتبرّك بمسّه ويفعل بالقبر مثل ذلك أو نحو هذا يريد بذلك التقرب إلى الله جلّ وعز، فقال: لا بأس بذلك) انظر: العلل ومعرفة الرجال، أحمد بن حنبل، تحقيق: وصي الله محمد عباس، الأثر رقم 3243 ص 492 دار الخاني ط2.
استمرّ هذا المفهوم حتى جاء ابن تيمية، وهو من حنابلة دمشق، فقلب ذلك المفهوم كليا حين قال: (وأما التمسح بالقبر – أي قبر كان – وتقبيله، وتمريغ الخد عليه فمنهي عنه باتفاق المسلمين، ولو كان ذلك من قبور الأنبياء، ولم يفعل هذا أحد من سلف الأمة وأئمتها، بل هذا من الشرك) انظر: حكم زيارة القبور والاستنجاد بالمقبور، ابن تيمية، ص54 دار طيبة.
حنابلة دمشق المتأخرون اعتبروا أن هذا من (التصحيح) الذي قدّمه ابن تيمية، إلا أن ابن تيمية نفسه لم يلبث أن مورس عليه ذات التصحيح بعد زمن، ففي كتابه (الكلم الطيب) وفي باب (إذا خدرت الرِجْل) يقول ابن تيمية: (عن الهيثم بن حنش قال: كنا عند عبدالله بن عمر رضي الله عنهما، فخدرت رجلُه، فقال له رجل: اذكر أحب الناس إليك، فقال: يا محمد، فكأنما نشط من عقال). انظر: الكلم الطيب، ابن تيمية، ص 96 دار الفكر اللبناني - ط1. ولاحقا سيظهر أتباع الشيخ محمد بن عبدالوهاب وتلاميذه ليعتبروا أن قول (يا محمد) هو من الشرك؛ كونه استغاثة بميت لا ينفع ولا يضر.
هذه العملية التسلسلية من النقض التراكمي للأفكار وانعطافاتها بحسب الوعي الزمني، واحتياجه الظرفي، تجعلنا نقرّ بإمكانية وعدم صعوبة التصحيح لأخطر تلك الأفكار التي جاءت في نفس ذلك الامتداد في نفس تلك الكتب وغيرها، ألا وهي عبارة: (يستتاب، فإن تاب وإلا قُتل)، العبارة الأكثر شيوعا والتي تحتاج أكثر من غيرها – وفي مثل هذه الظروف – إلى تقليبها وتمحيصها، بل وتأمل مخرجاتها.
[email protected]