محمد أحمد بابا

رأي الشارع

الأربعاء - 11 مايو 2016

Wed - 11 May 2016

قد يكون غرامي بمغزى المصطلحات هو ما قادني لأن أنظر بحسرة على (الشارع) في ديارنا، فمن يفهم مادة (ش ر ع) في أي من قواميسنا العربية يستوعب طبيعة الشوارع عندنا، فهي شارعة مناحيها ورحائبها بشكل واسع وكبير لا تكاد ترى فيها تزاحما إنسانيا بدنيا بأي حال من الأحوال.

وهي كذلك دائما ما تشرع في لفظ مكنوناتها بفعل الحفر والقص واللصق في دورة تنقيبية مستمرة تبحث عن أمر لا نستطيع فهمه حتى الآن سوى بعضلات سياراتنا في تلك الشوارع التي يقصر عمرها من جراء مطبات فجائية استفزازية.

عندما نبحث في شوارعنا عن حلقة وصل بين الشارع وهموم الوطن، أو بين الشارع ومشكلات المجتمع تحور أعيننا في ضباب كثيف يحجب الرؤية عن هوة واسعة أجزم أنها تنعدم في أغلب الأحيان، ولا يمكن أن نجد اعتمادا تحليليا أو إحصائيا علميا ينقذنا من هذا الموقف، حيث لا عينات يمكن أن تكون موضوع أي بحث أو استطلاع للرأي كما نسمع عنه أو نشاهده في مجتمعات أخرى.

وحتى لو رجعنا لشيء قديم من الإرث التاريخي العربي في نفس المناطق التي نعيش فيها وحاولنا التعرف على مشابهة قريبة مما نحن في صدد الحديث عنه لوجدنا أننا فقدنا الكثير من حقيقة (الشارع) كمصطلح لتواجد إنساني واجتماعي مهم له أثر في توجيه الرأي العام أو الخاص أو أنماط الحياة السلوكية حينها.

غالبا ما تكون المجتمعات في حاجة ماسة لاستطلاع رأي الشارع حول أي قضية يمكن تصنيفها ضمن القضايا التي تهم المجتمع ككل على اختلاف شرائحه وأعمار أفراده في طبيعة استفسارات عشوائية للخروج برأي يحمل طابع المجموعة، لذلك عندما تدعو الحالة لإخراج مرئيات الشارع في مجتمعاتنا نواجه صعوبة كبيرة في التناغم مع العالم في هذا المجال.

فلاغرو إذن ألا يكون لنا شارع نستظهر رأيه أو نتكل عليه في عزو الاتجاهات له، فطبيعة شوارعنا اليوم مثل نظرية عقولنا ومرامي توتراتنا الاجتماعية في تعاملنا مع بعضنا البعض كأفراد ونفسيات، فلا مكان للجيران ولا حق للمجاورين، بل ونادرا ما تنشأ علاقات بين الناس في الطريق أو على قارعته.

كما أن ما نلاحظه في تصميم المباني والمرافق التجارية والخدمية، بل والمساكن والطرق في شوارعنا شجع ذلك الانعدام الذي نعاني منه في وجود الكنز الذي نفتش عنه ونفتقده ليكون لدينا (رأي شارع) ولو على سبيل الكماليات، فكل الأمور تساعد على الانفرادية والتقوقع على النفس والاكتفاء بالأقارب من الدرجة الأولى حتى حين. عندما نعود لأنفسنا نعترف بأن ذلك من صنع أيدينا وانكفائنا على طلبياتنا المادية نحو الحضارة المزعومة التي أفقدتنا الكثير من الظواهر والمظاهر التي كان لها أثر كبير في تخفيف حدة العطش الدنيوي البشع، فلا لقاءات في الطرقات، ولا تزاحم حول حادثة معينة، ولا نقاش بصوت عال في جانب طريق، بل ولا سائرين على الأقدام بشكل يثري مظاهر الحركة والصخب. قد تكون الأحوال المناخية وتآلفنا مع التكييف وعدم رضانا عن واقعنا وقدرنا المكاني الذي ارتضاه الخالق لنا جعلتنا متمردين حتى على شوارعنا التي أضحت قاعا صفصفا إلا من سيارات تسير بسرعة الطيران، أو مركبات أخرى تقف بلا روح ولا حياة تنتظر قائدا يقودها للمجهول.

كيف يكون لنا رأي للشارع ونحن ليس لدينا خدمات يحتاجها من يسير في أي شارع في الدنيا؟ كيف يكون لنا رأي للشارع وليس في الشارع لدينا إلا الشارع نفسه ؟ كيف يكون لنا رأي للشارع وليس هناك سوى مجمعات تجارية استهلاكية ضخمة، الداخل فيها مفقود والخارج منها مولود؟ كيف يكون لنا رأي للشارع وليس فيه رغم اتساعه مكان للبسطاء أو الفقراء أو العوام؟

والغريب أنني حينما أتصور هذا الحال الذي نحن فيه بلا شارع، وتسير بي الأفكار نحو اعتقادي أننا أصبحنا بلا رأي أستعجب بقاءنا على قيد الحياة المجتمعية حتى الآن في الوقت الذي نفتقر فيه لأبسط مقومات الشوارع.

إلا أنني استدركت تشاؤمي وقلت ربما شوارع «تويتر» وأزقة «سناب شات» فصدت بعض الألم فاسترخى «الشوارعية» واستراح الشارع.