أحمد الهلالي

موت الأمان في تشكيل اللجان!

الجمعة - 06 مايو 2016

Fri - 06 May 2016

كثرت الأخطاء القاتلة، سواء على مستوى الأخطاء الطبية التي أضحت كابوسا لكل من يراجع المستشفيات، أو الأخطاء الإنشائية التي تنهار عند أول اختبار للمطر أو الرياح المتوسطة، والمؤسف أن معظم الأخطاء الإنشائية لا تذهب سدى، بل تأخذ في طريقها أرواحا بريئة ذنبها أنها كانت تستفيد منها في ذلك التوقيت المشؤوم، والملفت بعد كل خطأ كارثي، ظهور العبارة الأولى (تشكيل لجنة للتقصي) لإطفاء شعل الغضب الاجتماعي، يدلي بها وزير أو مسؤول رفيع في الوزارة، فيقال إنه في جو الحدث وتحرك (ما شاء الله عليه)، ولا بأس أن نشكل لجانا وليست لجنة واحدة للمحاسبة العادلة والدقيقة، تحاسب كل من له علاقة بالأمر، لكن يفترض أن يحتل تشكيل اللجنة مرتبة (الإجراء الثاني).

الإجراء الأول الذي يجب أن يتقدم على كل الإجراءات في الأخطاء سواء على مستوى الطب أو الإنشاء أو غيرها، أن يحاسب المتماسون المباشرون مع الخطأ سواء أكانوا قيادات أم عاملين، فمثلا سقوط الخيمة الثقيل على طالبات ثانوية الريش ببارق أودى بروح الطالبة (فاطمة عسيري) وكسور وجروح وهلع بين زميلاتها ومعلماتها، تجب فيه إقالة مدير التعليم ومدير قسم الصيانة، ومديرة المدرسة، وكل من يتماس مع هذا الأمر؛ لأن في إقالة هؤلاء رسالة لكل مسؤول يتموقع في مكتبه ولا يخرج لفحص الإنشاءات والأخطار المحدقة بالمستفيدين من خدمات منشأته، فلو قام مدير الصيانة بتوجيه الفرق المختصة إلى المدارس بصفة دورية، وتابع تلك الفرق بآليات تضمن قيامهم بمهامهم؛ لتوقى شر تلك الكارثة، ولو افترضنا جدلا تقصير قسم الصيانة، فكان حريا أن تتحرك مديرة المدرسة وتخاطب إدارة التعليم بتقصير فرق الصيانة، وأن تتفقد منشأتها بنفسها أو تستعين بمختصين ولو على حساب صندوق المدرسة، والمضحك غبنا أن تخرج إدارة تعليم محايل عسير (دون إجراء) بخبر (أن سبب انهيار المظلة تجمع مياه الأمطار عليها)، هل هو المطر الأول على المملكة؟!

ما يجعلني أذهب هذا المذهب، ليس التعسف ضد المسؤولين، أو التعاطف الآني مع الحادثة، بل أقصد إلى (الوقاية) للحد من هذه الحوادث التي صارت ظاهرة رعب مستمرة، وحماية الأبرياء من أخطاء المستهترين، الذين اتخذوا مكاتبهم مساكن، وإن خرجوا في جولات تفتيشية فهي شكلية يضبط إيقاعها المصورون، ويخرجها إلى العلن المحررون، فلو كان الأمر كارثة طبيعية تفوق تحمل المنشآت وقدرات البشر لقلنا هذا (أمر الله)، لكن معظم الحوادث تظهر فيها الأخطاء البشرية جلية لا غبار عليها، وتسفر التحقيقات الأولية عن تقصير المسؤولين في أداء مهامهم، وجميعنا يتذكر كارثة الحريق العظيمة التي حلت بمستشفى جازان، فأظهرت الأخبار قبل التحقيقات تقصير إدارة المستشفى وإهمالها الذريع في تجاهلها مخاطبات الدفاع المدني وتنبيهاته.

حين ننزع إلى أن تكون المحاسبة الأولية للمتماسين مع الخطأ (الكارثة) أيا كانوا هي (الإجراء الأول)، سنضمن إشعال هاجس المسؤولية حتى يسيطر على المسؤول فيخرج من مكتبه، ويتحرك حثيثا في كل الاتجاهات والتدقيق في كل صغيرة لحماية نفسه من المحاسبة، فمهندس البلدية لن يتسلم المشروع إلا بعد اكتمال كل أركان جودته، ومدير المستشفى لن يتستر على الطبيب الضعيف أو قليل التركيز بحجة الزمالة، ومدير المشاريع في الأمانات لن يرسي مناقصة على مؤسسة ضعيفة أو قليلة خبرة في الإنشاءات المهمة، فنستطيع إجبار كل التروس على الحركة بدقة وتناغم، تجعل حركة العجلة الأم منتظمة آمنة.

ليست لدينا ثقافة المسؤول الغربي حين يقدم استقالته فور وقوع كارثة، فيعاقب نفسه بنفسه، وغياب هذه الثقافة التي يحركها (الضمير المتألم) حين يراعي مشاعر المتضررين من سوء إدارته يعود إلى غياب المحاسبة الأولية لدينا، وانتظار قرارات اللجان التي ربما تظل تدور في حلقة مفرغة، وكل جهة تبرئ نفسها وتتهم الأخرى، أو تتدخل المحسوبيات في إجراءات التحقيق، وربما تصل إلى صلح اجتماعي بين المسؤول والمتضررين، تنتهي إلى (الله يعوضكم خير)، وكل عبارات المواساة والقضاء والقدر، ويظل الداء مكانه دون دواء.

نحن اليوم على أعتاب التحول الوطني الشامل، وبحاجة ماسة إلى أنظمة وإجراءات وقائية حقيقية، لا أقول تقضي على كل الكوارث، لكن تستطيع أن تحجزها في زاوية (الندرة) والخارج عن الإرادة، فكل الأخطاء واردة ومقبولة، إلا الأخطاء المهلكة كالأخطاء الطبية، والأخطاء الإنشائية التي غالبا ما تنتج عن الفساد واللامبالاة، وضعف المسؤول عن إدارة منشأته بحزم ومتابعة حثيثة، وأظل أكرر يجب أن نتحول من إجراءات تشكيل اللجان إلى المحاسبة السريعة والفعالة، فإقالة المسؤول لا تعني قطع رزقه بفصله من وظيفته، بل تنحيته عن موقع المسؤولية إلى ما يوافق قدراته، وفتح المجال لكفاءات أفضل، تضع مصلحة الوطن وأبنائه فوق كل اعتبار.