وطن ينظر إلى أعلى!

انتظرنا 25 أبريل بشوق كبير، وتسمرنا والعالم أمام شاشات التلفزيون لسماع الحديث الشيق لسمو ولي ولي العهد الأمير محمد بن سلمان الرجل الطموح وصاحب الرؤية المشرقة الشفافة، وكنت أتمنى أن تلغي قناة العربية الفواصل الإعلانية وتمد المقابلة إلى ساعتين، ولن أكون مبالغا إذا قلت إنها أكثر مقابلة انتظرتها، وركزت كل حواسي معها.

كل محور من محاور الرؤية يستحق توقفات مطولة، ومقارنات بين الواقع والمستقبل، لكني لن أقحم نفسي في الاقتصاديات والأرقام، وسأكتفي بالنظر في اختصاصي وتطلعاتي، فقد استوقفني التفكير في العمق الجغرافي والتاريخي لبلادنا، وسأجوز الجغرافيا لأنها تخص الاقتصاديين أكثر، وسأنفذ إلى العمق التاريخي المتصل بالثقافة، فاستلهام البعد التاريخي في صناعة المستقبل أراه استراتيجية ذكية تؤمن باتصال الأمة وامتدادها، فحين عبّر الأمير عن اجتزاء تاريخنا في 1400 سنة كان يعي تماما أننا نتكئ على حضارة دينية، وقد اجتزئت ثقافتنا الممتدة في هذا التاريخ فقط.

كثير من المصادر التاريخية التي تدرس لأبنائنا تصف المجتمع العربي قبل الإسلام بالجاهلية على إطلاق الوصف، ولا يخصص بالشرح على الجهل العقدي، وحتى العقدي ليس على إطلاقه فمن عرب الجزيرة من كان يعتنق الحنيفية، ومنهم من يتبع النصرانية أو اليهودية، وهذا الوصف يجتث كل تلك الحقبة من حياة الأجداد، ويلقي بها في المنطقة المعتمة من عقلية التلقي، ثم بعد ذلك الوصف يغلق الستار على تلك المرحلة بأوصاف ونعوت تزيد الإعتام حتى يصير ظلاما يتعوذ فيه المرء من الحقبة وأهلها، وهذا كله بحسن نية لتبيان أثر الإسلام في العرب وتهذيبهم وتحريرهم من معتقداتهم السابقة، ولو أعمل أصحاب تلك الأوصاف النظر في حديث النبي، صلى الله عليه وسلم: «إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق»، فالفعل (أتمم) بمعنى أكمل، ولا يمكن إكمال المعدوم، فالتتميم والإكمال يكونا للموجود، وهذا ما نفهمه من سياق الحديث النبوي، فعرب ما قبل الإسلام عندهم أخلاق كريمة وسجايا حسنة، جاء الإسلام فأتمها وبنى عليها، وفي قراءة الشعر العربي القديم، وتأمل القصص العربية القديمة ما يدل على تلك الأخلاق الكريمة، وفي تدبر مسيرة تلك الأخلاق نجد الإسلام أتمها سواء بتصحيح بعض أجزائها أم بالزيادة فيها أم باعتمادها والإقرار بها كما كانت عند العرب، ولا ينكر بشر أن الإسلام اجتث بعض العادات العربية القديمة المرتبطة على الأكثر بالمعتقدات، وبعض السلوكات الاجتماعية التي لم تكن منظمة، فالإسلام نور أضاء العقلية العربية ووجهها إلى الأفضل معاشا واعتقادا.

إن تركيز النظرة المستقبلية للمملكة في المرحلة القادمة على البعد التاريخي العربي عبر القرون، وبحثها عن الحضارات التي عاشت على ثرى جزيرتنا العربية، سيكون إثراء حقيقيا، خاصة ونحن نعلم أن المملكة تحظى بإرث تاريخي كبير وممتد، بعضه ما يزال نائيا عن الكشف والاستثمار، خاصة في كلال المراكز البحثية السعودية عن الكشف عن آثار مهمة كما يفعل المصريون، ولعل بعض الباحثين قد ساهموا في إضعاف هذا التوجه حين يعتمدون على التفسيرات النظرية المكتوبة في تراثنا العربي والديني بعيدا عن الحقول التطبيقية اليوم، وكذلك خطوة تسجيل آثار الوطن في منظمة اليونسكو سيكون لها أثر كبير على البلاد، وزاد عليه الأمير افتتاح (متحف إسلامي) يتيح لنا وللعالم أجمع الاطلاع على الإرث الإسلامي الضخم من خلاله، بدل شتاته في المتاحف والهيئات المختلفة.

ثم استوقفني في الشق الثقافي حديث الأمير عن (الثقافة والترفيه)، لكن الحديث لم يتسع حول هاتين النقطتين الحيويتين، فالثقافة هي الامتداد الحقيقي والطبيعي لأمتنا، ولتبقى تلك الأمة حية؛ تجب مشاركتها وتأثيرها في عمق الفعل العالمي اليوم من خلالنا، فهذا ما يحدد هويتنا الحقيقية، ويصنع اعتزازنا بماضينا وواقعنا، وسيكون (الترفيه) في نظري امتدادا لهذه الثقافة، فحين تصل ثقافتنا إلى مرحلة النضج والريادة ستصبح فاعلة ومنتجة، ومنتجاتها هي التي ستخلق ترفيه المجتمع، ولعل الترفيه المنبثق عن الثقافة سيتجه إلى صناعات سياحية ومسرحية ودرامية وسينمائية وفنية وإبداعية بعقول وأيدٍ سعودية، تجعل ثقافتنا منفتحة على الآخر، تنقل إلى الأمم صورتنا الحقيقية وهويتنا العربية والإسلامية، وفق مبادئنا وثوابتنا الراسخة عقديا واجتماعيا.

الحمد لله ظهرت الرؤية واعتمدها الملك ـ حفظه الله ـ ولم يبق إلا التنفيذ، وخارطة طريق هذا التنفيذ، وقد دعا الملك الجميع إلى التضافر لإنجاحها، وركز الأمير في حديثه على أهمية تظافر كل الجهات الحكومية والخاصة، والمواطنين في سبيل تحركنا إلى الأمام بخطوات واثقة قوية، في غياب (مخاوف النفط) أخطر هاجس ينتابنا ويهيمن تأثيره السلبي على قراراتنا المستقبلية، وبهذا سيكون لزاما على كل مواطن أن يسهم في التطبيق الفعلي لهذه الرؤية، وأن يفضح كل متآمر يعيق تقدمنا من أجل مصالحه الشخصية أو الفئوية.