صالح زياد

الزمن الجميل..!

الأربعاء - 06 أبريل 2016

Wed - 06 Apr 2016

حين تلحق صفة «الجميل» الزمن، فإنها -عرفيا- تحدد دلالته عل حقبة بذاتها في الماضي: ماضي الفرد، أو ماضي الجماعة التي تمثل جيلا. فلا أحد يطلق على الحاضر أو المستقبل «الزمن الجميل» ليس لأننا متفقون على عدم الشعور بجمال الحاضر ولا لأننا لا نأمل بجمال المستقبل، وإنما لأن إرادتنا الوصف للحاضر أو المستقبل بالجمال تستلزم تعيينهما في موضع الموصوف بالجمال، فنقول «الحاضر الجميل» و»المستقبل الأجمل». وهذا شرط يبرأ منه الماضي، فلا يستلزم قيد التعيين، ولا تخرج دلالة الزمن موصوفا بالجمال عنه اصطلاحيا. ودليل ذلك ما تفشى تداوله في حقبتنا هذه في عناوين بعض البرامج التلفزيونية والإذاعية المتخصصة في اختيار مواد قديمة وعرضها، وفي صفحات بعض الجرائد التي تعيد نشر مواد صحفية قديمة، وفي بعض معرفات الحسابات في مواقع التواصل الاجتماعي ومواقع الشبكة العنكبوتية، حين تتعرف بجمال الزمن وتستعيد صورا وفيديوهات وأحاديث وغيرها عن الماضي. وهذا غير ما يطفح به بعض الشعر والسرد والمقالات من حنين إلى الماضي، وغير ما يمكن للمرء رصده في أحاديث المجالس واجتماعات الأصدقاء.. إلخ.

وقد نقول إنها النوستالجيا التي تعرف الحنين إلى الماضي بوصفه ظاهرة لها عموم في المجتمعات الإنسانية، فالقدامى حنوا إلى الماضي الذي لم يكن حاضرهم يتميز بتغير كبير عنه، والمحدثون حنوا إلى الماضي وحاضرهم يشهد تغييرات متلاحقة وسريعة. ولكن دعوى العموم هذه لو صدقت لما اجترح الإنسان أساليب جديدة في حياته، وابتكر تقنيات حديثة، وترقت حياته في معارج الرقي والتقدم. وهذا التقدم لا يستلزم عدم العكوف على الماضي فحسب، بل نقده وتجاوزه والتطلع إلى المستقبل واستبدال التركيز عليه بالانحباس في الماضي. وإذا كانت هذه الممارسة التي تسعى إلى تجاوز الماضي عقلانية وعلمية، وهي المدلول الذي يندرج في الحداثة من حيث هي علاقة تغير مستمر مع الزمن، فإن الحنين إلى الماضي -بهذا القياس- دلالة رجعى إلى القهقرى، وشعور بالعجز، وانهيار للأمل. فهل يمكننا أن نتبين لحنيننا إلى الماضي -نحن من يستهلك الحداثة ويقاوم التغير- وجوها من الاختلاف مع حنين المجتمعات التي تنتج الحداثة وتسهم في صناعة التغير؟!

يجب أن نفرق أولا بين دلالة الزمن الجميل على الماضي عند فرد، وبين دلالته على الماضي عند مجتمع، فنحن -هنا- بصدد الحنين إلى الماضي عند المجتمع. وفي هذا المستوى ينبغي التفريق بين أجيال المجتمع، ولنتخذ المجتمع السعودي مثالا. إن الماضي لدى جيل الأجداد الذين أدركوا الزمن قبل توحيد الدولة وفي بداياتها، يتسم بصورة سوداوية وأليمة، هي صورة زمن الفوضى والحروب وقلة ذات اليد وأساليب الحياة القديمة، ولذلك كان ذم الماضي وليس الحنين إليه هو الأكثر تسلطا على حسهم الجماعي. وقد يبدو جيل المراهقين وصغار الشباب المولودين في التسعينات وأواخر الثمانينات الميلادية أقل تشاركا للحنين وبعضهم أقرب إلى تشارك حنين معتدل. أما جيل الستينات والسبعينات وبعض الخمسينات والثمانينات فهو الجيل الأكثر حنينا للماضي ونسبة له إلى الزمن الجميل. فليس الزمن الجميل دلالة مطلقة على الماضي بل على ماض محدد بحسب كل جيل. والسؤال الذي نطرحه الآن يتركز على سبب شيوع الحنين إلى الماضي عند جيل الوسط: الجيل الذي نشأ بعد امتداد سلطان الدولة وقيام مؤسساتها وشرعنة أنظمتها؟!

أظن أن لحظة الماضي التي تغدو موضوعا للحنين لدى ذلك الجيل الوسط، وأعمارهم الآن مجاوزة للأربعين، وأكثرهم في ما وراء الخمسين، هي لحظة آمال مجتمعية كبيرة، بالحسابات القومية والوطنية، لحظة مشوقة إلى التطور والتغير ومتطلعة إلى الحداثة. وقد يبدو في هذا الحنين بعض الهزيمة وشيئا من شعور الاختناق بالحاضر لأنه دون طموح ماضيهم، ولكنه حافل بالإيجابية تجاه معنى التطور والتغير، وليس نكوصا عنه. إنه -بالأحرى- مغالبة لاهتزاز الثقة في الذات، واستشعار لوحدة الذاكرة، ومعالجة للكآبة. وهذه كلها علامات استعادة للأمل من أجل المستقبل، فلا معنى للأمل في غيره. ولكننا لا نستطيع أن نعمم هذا الظن، فهناك لواذ بالماضي خوفا من التغير وتحاشيا للحداثة.

وعل كل حال، فإن الحنين المجتمعي إلى الماضي، كيفما كان، دلالة انتقاص للحاضر وذم له وإعلان للبرم به.

[email protected]