صالح زياد

موت الكاتب.. لحظة إشعاعه الأعظم!

الأربعاء - 30 مارس 2016

Wed - 30 Mar 2016

لم نكد نفيق قليلا من صدمتنا المفاجئة بموت الكاتب «الألمعي» محمد بن علي البريدي، حتى عاجلنا الموت بصدمة مفاجئة أخرى في الكاتب «البريدي» الدكتور عبدالرحمن الوابلي. وهما -عليهما رحمة الله- اسمان معروفان جيدا بكتابة مقالة الرأي، ويزيد محمد على احترافه لمقالة الرأي اليومية بموهبته الإبداعية الأدبية، فيما يضيف عبدالرحمن إلى كتابة المقالة والصفة الأكاديمية، كتابة الدراما التلفزيونية على النحو الذي حقق ذيوعا شعبيا باهرا في حلقات «طاش ما طاش» و»سلفي». وإلى ذلك فهما يتشاركان المبدأ التنويري الذي يجعل خطابنا الثقافي والفكري يخسر بموتهما قلمين أسهما في تصحيح الوعي وترقيته وتوسيع آفاقه، وجابها في سبيل ذلك التحديات والطعون. وهي خسارة مضاعفة بالتحديد في هذا الوقت الذي تتزايد فيه سطوة التنظيمات الإرهابية، ويتفاقم الخطاب الظلامي المتطرف.

أصدقاء محمد البريدي وأهله الألمعيون في محافظة رجال ألمع بمنطقة عسير ينظمون مساء اليوم أمسية لتأبينه في مجلس ألمع الثقافي، وهم لا يدللون بذلك على وفائهم ومحبتهم للراحل فحسب، بل على وفائهم للفكر الوطني والإنساني المستنير كما مثله محمد وأسهم في ترسيخه. ولذلك وجدت نفسي سعيدا بحضور هذه المناسبة والمشاركة فيها، فالمقالات والنصوص التي تركها محمد ثروة قمينة بالتحليل والوصف والقراءة في أكثر من مستوى. وأعتقد أن هناك خمس مزايا رسمت لكتابة محمد البريدي امتيازا ضمن أبرز الأسماء التي تتعاطى كتابة مقالة الرأي في الصحافة السعودية، وضمن المثقفين الذين يطمحون إلى اتساع دائرة الوعي بالواقع والاستشراف لمستقبل وطني وعربي وإنساني أفضل.

وأول هذه المزايا: الموقف النقدي، وهذا موقف اكتشاف للواقع، من الزاوية التي تترامى إلى المجاوزة المستمرة والتقدم المثابر، فمن دون النقد لا بد أن يترسخ الجمود والتراجع وأن تتفاقم مشكلات الوعي بالحياة، لأن الوعي -عندئذ- أضيق من استيعاب الواقع، والرغبة أدنى من الطموح إلى المستقبل. ولهذا كان الموقف النقدي دلالة استنارة وتنوير، فالمجتمعات الظلامية مجتمعات غير نقدية، والكاتب الذي يخدم الظلام كاتب إذعاني ومدائحي وتقليدي بالضرورة.

والثانية: الطاقة الخلاقة، فالكتابة لدى محمد البريدي سواء في مقالات الرأي، وهي أكثر نشاطه دلالة عليه وتعريفا به، أم في نصوصه الأدبية، ابتكار للتكنيك وتخليق للصور والمعاني. ولم يكن محمد يجتر أفكارا سائدة ويكرر صورا مغسولة، لأنه يتأدى إلى ما يكتب بتخليق أوصافه وتسمياته التي تحفل بالمفارقة، وكانت الكتابة لديه لعبة مهارة ودهاء تعيد صياغة المفاهيم والوقائع وتشكيلها وتحويلها وتفسيرها.

والثالثة: المثابرة والاستمرارية، وذلك أننا عرفنا محمدا أكثر ما عرفناه كاتبا يوميا، وإذا كانت الكتابة اليومية معايشة مستمرة للقلق ونزيفا دائما للجهد، فإنها علامة على علاقة مع الكتابة تجاوز المهنية إلى العشق، والرغبة الفارغة في الظهور إلى الاختلاج بالمسؤولية والشعور بالواجب وتحمل الأعباء. وهذا غير ما تؤكده المثابرة والاستمرارية من امتلاك الطاقة الخلاقة والتصدي لمهمة الكتابة من موقع الاقتدار والثقة.

والرابعة: اتساع الرؤية والاهتمام، فلم تتخذ زاوية الرؤية لدى محمد منظورا ضيقا، بحسابات فئوية بأي معنى، بل كان منفتحا على المعنى الوطني في عمومه، وعلى الأفق العربي والإسلامي، وعلى القيمة الإنسانية في أشمل وأوسع ما تدل عليه. وموضوعات من قبيل المناهضة للتعصب ومقاومة التشدد والتطرف الديني وهجاء الجهل، ونقد أمراض العنصرية الذكورية والطائفية والمناطقية من أكثر الموضوعات إلحاحا وشيوعا في مقالات محمد.

والخامسة: حيوية الشباب، وليس المقصود بالشباب هنا المعنى المجازي الذي نجامل به الكبار، فلقد كان محمد شابا فتيا فعلا. وهذه الصفة في وسط صحفي وثقافي يغلب عليه من لا تقل أعمارهم عن «الخمسين» عاما، صفة لافتة وذات مزية. وهي مزية بالنظر إلى دلالتها على حيوية ساحتنا الثقافية وتجددها، ولكنها مزية أكثر قيمة من زاوية الحساب لتأثير الخطاب الذي يصنعه من هو في سن محمد من المثقفين في الأجيال الجديدة؛ فهم أطوع له، بحكم قربهم من سنه، وأكثر تجذرا وانغراسا فيه.

[email protected]