صالح عبدالله كامل

الإسلام دين النظام لا دين الفوضى

السوق
السوق

الاحد - 20 مارس 2016

Sun - 20 Mar 2016

الإسلام دين النظام، فقد جاء ليحكم الحياة من جميع نواحيها، وهو كذلك دين التناسق الذي جاء ليهتم بجوانب الحياة باعتدال، لا يزيد في جانب على حساب آخر، وهو دين الشمول، حيث غطى الحياة كلها برحمته وتوازنه ونظامه ودقته، فلم يترك شاردة ولا واردة إلاّ وله فيها قول وأمرٌ ونهي.

جاء الإسلام سراجاً وهّاجاً إلى قيام الساعة ينظم للإنسان دقائق حياته، بما يُصلح دنياه وآخرته، في كتاب لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، فالإنسان لم يُخلق سُدى، ولم يُترك بلا هُدى، قال الله تعالى: (أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ).

والإنسان يحتاج إلى أنظمة وقوانين تحدد علاقاته وتوضح واجباته، وعندما تختل النظم وتختفي القوانين من حياة الناس، تحدثُ الفوضى التي تستخدمُ القوة والعنف، وتسعى وراء المصلحة على حساب القيم والأخلاق، وعندها تفسد الحياة وتصبح جحيماً لا يطاق، فلقد خلق الله هذا الكون وأبدعه وبناه على نظامٍ دقيقٍ، وأحكمه حتى لا يتقدم فيه مخلوق على آخر، ولا يتأخر مأمُور عمّا أُمِر به. وتصور قارئي العزيز، ما الذي يحدث لو خرج كوكب عن مساره، أو اصطدم نجم بآخر، أو طَغى بحرٌ على يابسةٍ أو غار فجأةً، أو زال جِيلٌ أو جفَّ شجر في غير حينه، تصور فساد المعايش واختلال الحياة.

ولهذا كان كل هذا النظام، وجاء كل هذا الإحكام لسير الكون وتنظيم العبادات والأحكام، لتعويد الناس وتربيتهم ليكونوا في كل أمورهم منظمين مرتبين، وعلى الصواب سائرين. ولقد جاء الإسلام بكل ما يُصلح حياة الناس وينظمها ويرتبها ويكسبهم السعادة والراحة والطمأنينة. والإنسان كذلك مدعو أن يتفكر في نفسه، في خلقه، في ذلك النظام الدقيق بين عمل أجهزة جسمه.. مستيقظاً أو وهو نائم (وَفِي أَنفُسِكُمْ أَفَلَا تُبْصِرُونَ).

ويقول المبعوث هدىً ورحمةً للعالمين: (مثلُ المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم كمثل الجسد الواحد، إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالحمّى والسهر).

وهكذا بالقياس فإن حياتنا إذا حدثت الفوضى في علاقاتنا الاجتماعية والسياسية والاقتصادية، فإن حياة المجتمعات والأفراد تتعرض للأخطار، وتتهددها المشكلات، وستكون الفوضى – خلّاقة أو غير خلّاقة – حجر عثرة في التقدم والاستقرار والتطور والازدهار.

إن كل ما حول الإنسان يدفعه أن يكون منظماً في حياته، مرتباً في حركاته، متقناً لواجباته، محسناً في تعاملاته، صادقاً في بيعه وشرائه، وفياً في أخذه وعطائه.. لكن هذا الإنسان للأسف الشديد ولسوء حظه قد يخرج في بعض الأزمنة والأمكنة من نعيم النظام إلى جحيم الفوضى والعبث والتقصير، ليَلقَى -والعياذُ بالله- سوء العاقبة وسوء المصير، متوهماً أن هذه هي الحرية، وهي في الواقع الانحراف والهمجية.. غافلاً أو متغافلاً، واهماً أو متوهماً، أن الحرية إذا كانت تركاً لواجب، أو انتهاكاً لممنوع، أو تقصيراً في أداء مشروع، أو اختراقا لنظام موضوع، فإنما ذلك أول طريق النهاية، وبداية خرابٍ لعالمه الذي يعيش فيه، سواء على مستوى بيته وأسرته أو قريته ومدينته.

ومن ينظر إلى توجيهات الإسلام وتشريعاته وأحكامه يجد أنه دين منظّمٌ في جميع شؤونه، يأمر بالنظام ويهتم به في كل جوانب الحياة. إنه دينُ النظام لا دينُ الفوضى.

عرض بعض المسلمين على رجل أمريكي مشهداً للحرم وهو يعجّ بالمصلين والطائفين قبل إقامة الصلاة في المسجد الحرام، ثم سألوه: كم من الوقت يحتاج هؤلاء لكي يكونوا في صفوف منظمة متحلقة حول الكعبة؟ فقال ساعتين إلى ثلاث ساعات، فقالوا له: إن الحرم أربعة أدوار!! فقال: إذاً اثنتي عشرة ساعة. فقالوا: إنهم مختلفو اللغات وحتى اللهجات ومن بلدان شتى!! فقال الخواجة: هؤلاء لا يمكن اصطفافهم أبداً. ثم حان وقت الصلاة.. فتقدم إمام الحرم بعد الإقامة.. وقال: استووا واعتدلوا.. سووا صفوفكم.. فوقف الجميع في صفوف متراصة حول الكعبة المشرفة في دقيقتين لا أكثر.

وأذكر أن أحد الصحفيين العرب عند باب المسجد الحرام رأى الملك الراحل فيصل بن عبدالعزيز يرحمه الله خارجاً فأراد أن يشكره على حسن تنظيم هذه الوفود أثناء موسم الحج وفي كل الشعائر، فقاطعه الملك قائلاً: يا أخي لا تشكرني ولا تشكر أحداً.. بل اشكر الله وحده، فهذه الجموع البشرية الهائلة لا يمكن لبشر أن ينظم مسيرتها، ولكنها حكمة الله وحده القادرة على ذلك.

ومثل ذلك عزيزي القارئ نراه في الزكاة، لها أحكام في أنواعها ومقاديرها ونسبها، والصوم له بداية ونهاية ومنطلق وغاية، والحج أشهر معلومات، ومناسك وشعائر، يتنقل العباد من بعضها لبعض في نظام لا يخرجون عنه ولا يتجاوزونه. ولله تعالى فيما بين ذلك على عباده حقوقٌ في الليل لا تُقبلُ في النهار، وأخرى نهارية لا تؤخر لليل، وثمة كفارات ونفقات حُددت بمقادير معلومة وأوصاف مضبوطة.

بل حتى في أشد حالات الخوف، وهو وقت الحرب، لم يقبل الإسلام حياة الفوضى، بل أمر بتنظيم الصفوف والتخطيط والترتيب، قال تعالى (إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُم بُنيَانٌ مَّرْصُوصٌ)، وكان النبي عليه الصلاة والسلام يعدّل صفوف المقاتلين بنفسه يوم بدر، ووضع لهم نظاماً معيناً لكيفية أداء الصلاة جماعةً، في أرض المعركة.

وفي باب الحياة الاجتماعية والأُسرية نظّم الإسلام السلوك والمعاملات، وسنّ القوانين والتشريعات في البيع والشراء، والزواج والطلاق والعلاقة بين الأزواج، وعلاقة المسلم بأخيه المسلم، وعلاقته بغير المسلم. وحث الإسلام على التزام الأدب واحترام القوانين والمحافظة على الذوق العام. وقال عزّ من قائل: (تِلْكَ حُدُودُ اللّهِ فَلاَ تَعْتَدُوهَا وَمَن يَتَعَدَّ حُدُودَ اللّهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ).

وهكذا يسير الكون طبقاً لنظام دقيق لا توجد فيه فوضى أو عبثية أو تضارب واختلاف، لأن الذي وضعه وأتقنه هو الخالق – جلّ في علاه – وفي المقابل يُلفت – عزّ وجلّ – انتباهنا إلى تصور اختلال هذا النظام ووباله على الناس: (قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِن جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ اللَّيْلَ سَرْمَدًا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُم بِضِيَاء أَفَلَا تَسْمَعُونَ).

سمعنا وأطعنا، غفرانك ربنا وإليك المصير.

إذا كتب الله لنا مزيداً من العمر، سأواصل معكم الحديث في الأسبوع المقبل بعون الله ومشيئته.