مديح الكتاب!
الأربعاء - 16 مارس 2016
Wed - 16 Mar 2016
على المستوى التفصيلي في وصف قيمة الكتاب، تتمايز الكتب وتختلف؛ فبعضها مفيد وبعضها ضار. ومن الكتب المفيدة ما يفيد بما يتضمنه من الخبرة والتجربة وما يضيفه من المعاني والمشاعر، وما يوثقه من المعلومات، أو يبرهن عليه من النتائج، أو يرسمه من المناهج التي يكتسب بها القارئ مهارة ويتعلم قدرة على إنتاج المعرفة وضبطها. ومنها ما يفيد بما يخلقه من عوالم خيالية، وتغريب للمألوف، وأسطرة للواقع حيث تكتسب الرؤية دقة وعمقا ويقظة وتصطبغ بالدهشة والعجائبية، وما يفيد بحساباته العقلانية والواقعية المباشرة... إلخ. وأظن أن أعظم صفة تجتمع بها الفائدة في الكتاب هي طاقة التحرير والتحرر التي تتمخض في تجربة القراءة: طاقة الانتشال للوعي من سبات عادته ومألوفه، والمجاوزة للحضور والراهنية؛ فالقارئ هكذا يتخطى الانحصار في لحظة أو فئة أو جنس... إلخ وهو تخط ضروري للقراءة بوصف الكتاب -أي كتاب- هو خطاب آخر تستدعي علاقة القارئ به اختلافا عن ذاته.
أما الكتب الضارة، فهي كتب قمعية للوعي، آسرة للبداهة، تسلطية بتكرار مادتها، عنيفة في محتواها، حدية وإطلاقية تجاه ما هو نسبي بالضرورة، وقابل لأكثر من معنى وأكثر من صفة. وهي لذلك لا ترى إلا من زاوية واحدة،
ولا تبصر إلا لونا واحدا. وضررها عندئذ لا ينحصر في ما يتمخض عنها من الفقر والضيق والسطحية لوعي قارئها ومعانيه، بل تتجاوز ذلك إلى إثارة الأحقاد والإحن وبث الكراهية وتأجيج العداوات وغياب المعاني الإنسانية وحس المسؤولية، وإلى تخريب المكتسبات التي ورثتها الإنسانية عن تجارب مريرة وعنيفة طوال قرون. وبالطبع لا تقتصر هذه الكتب الضارة على بعض ما ينتجه مجتمع من المجتمعات، أو ثقافة من الثقافات؛ فكل المجتمعات والثقافات تنتج أفكارا دموية وأيديولوجيات كراهية بمعنى أو بآخر. والأمر نفسه يمكن حسابه من جهة الكتب المفيدة والنافعة، فهي ليست حكرا على أمة ولا قصرا على بلد، وإن كان لتفاوت التقدم الاجتماعي والحضاري أثره، بنسبة وتناسب، على اتساع دائرة الإنتاج للكتب المفيدة وضيقها.
هذا المستوى التفصيلي في وصف قيمة الكتاب الذي يمايز بين جيده ورديئه، ويخالف بين ما يفيد من الكتب وما يضر، يختلف عن الصفة الإجمالية للكتاب: صفته بألف لام الجنس التي تعم الكتابة المسطرة على الورق، وتشتمل على كل مكتوب. فهنا لا نكاد نعرف للكتاب -ثقافيا- إلا معنى مدحيا وتمجيديا لا يميز بين نوع من الكتب وآخر، وإذا عرفنا تمييزا تتقدم فيه قيمة الكلام على الكتابة عند كثير من الفلاسفة بعلة الحضور للمعنى ودرءا لتحريفه وتبدل قصديته، فإن ذلك خارج التمييز بين نوع من الكتب وآخر؛ لأنه تمييز بين الكتابة والكلام لا بين كتابة وأخرى. المعنى التمجيدي والمدحي للكتاب هو نتاج نشاط مجازي لدلالة الكتاب تجاوز به الدلالة الفيزيقية المحصورة في أشكال الحروف المرسومة على الورق إلى الرمزية للعلم واتساع المعرفة ورقي الوعي، وإلى حضور القارئ من حيث هو مقتضى لكل كتابة: الحضور الذي يدلل على الاختلاف لا الأحادية، والتشارك لا الاستبداد، والاستقلال لا الخضوع...
الجاحظ الذي يتكرر على ألسنتنا نصه الشهير في مديح الكتاب، يمارس بمديحه ترميزا للكتاب على فعل القراءة وحريتها واختيارها وقدرتها على التفاعل. أي أنه يشرط المديح للكتاب بدلالة ويقيده بأفق هو استنهاض القارئ، والتشارك معه، وعدم تسلط الكتاب عليه؛ فهو بحسب مشيئة القارئ، طيع له، مؤنس إياه، وشاغل له عن السخف واعتياد الراحة، يضيف إلى عقله، ويصادق بينه وبين الحجة... إلخ. وقد غدت رمزية الكتاب التي تمحو التفاصيل، وتجمل وجوه الفائدة والمضرة فيه، دلالة القيمة في علاقة الأفراد والمجتمعات به: دلالة العلم والحرية والتاريخ والتقدم والحقوق والجمال والرقي الإنساني.
[email protected]
أما الكتب الضارة، فهي كتب قمعية للوعي، آسرة للبداهة، تسلطية بتكرار مادتها، عنيفة في محتواها، حدية وإطلاقية تجاه ما هو نسبي بالضرورة، وقابل لأكثر من معنى وأكثر من صفة. وهي لذلك لا ترى إلا من زاوية واحدة،
ولا تبصر إلا لونا واحدا. وضررها عندئذ لا ينحصر في ما يتمخض عنها من الفقر والضيق والسطحية لوعي قارئها ومعانيه، بل تتجاوز ذلك إلى إثارة الأحقاد والإحن وبث الكراهية وتأجيج العداوات وغياب المعاني الإنسانية وحس المسؤولية، وإلى تخريب المكتسبات التي ورثتها الإنسانية عن تجارب مريرة وعنيفة طوال قرون. وبالطبع لا تقتصر هذه الكتب الضارة على بعض ما ينتجه مجتمع من المجتمعات، أو ثقافة من الثقافات؛ فكل المجتمعات والثقافات تنتج أفكارا دموية وأيديولوجيات كراهية بمعنى أو بآخر. والأمر نفسه يمكن حسابه من جهة الكتب المفيدة والنافعة، فهي ليست حكرا على أمة ولا قصرا على بلد، وإن كان لتفاوت التقدم الاجتماعي والحضاري أثره، بنسبة وتناسب، على اتساع دائرة الإنتاج للكتب المفيدة وضيقها.
هذا المستوى التفصيلي في وصف قيمة الكتاب الذي يمايز بين جيده ورديئه، ويخالف بين ما يفيد من الكتب وما يضر، يختلف عن الصفة الإجمالية للكتاب: صفته بألف لام الجنس التي تعم الكتابة المسطرة على الورق، وتشتمل على كل مكتوب. فهنا لا نكاد نعرف للكتاب -ثقافيا- إلا معنى مدحيا وتمجيديا لا يميز بين نوع من الكتب وآخر، وإذا عرفنا تمييزا تتقدم فيه قيمة الكلام على الكتابة عند كثير من الفلاسفة بعلة الحضور للمعنى ودرءا لتحريفه وتبدل قصديته، فإن ذلك خارج التمييز بين نوع من الكتب وآخر؛ لأنه تمييز بين الكتابة والكلام لا بين كتابة وأخرى. المعنى التمجيدي والمدحي للكتاب هو نتاج نشاط مجازي لدلالة الكتاب تجاوز به الدلالة الفيزيقية المحصورة في أشكال الحروف المرسومة على الورق إلى الرمزية للعلم واتساع المعرفة ورقي الوعي، وإلى حضور القارئ من حيث هو مقتضى لكل كتابة: الحضور الذي يدلل على الاختلاف لا الأحادية، والتشارك لا الاستبداد، والاستقلال لا الخضوع...
الجاحظ الذي يتكرر على ألسنتنا نصه الشهير في مديح الكتاب، يمارس بمديحه ترميزا للكتاب على فعل القراءة وحريتها واختيارها وقدرتها على التفاعل. أي أنه يشرط المديح للكتاب بدلالة ويقيده بأفق هو استنهاض القارئ، والتشارك معه، وعدم تسلط الكتاب عليه؛ فهو بحسب مشيئة القارئ، طيع له، مؤنس إياه، وشاغل له عن السخف واعتياد الراحة، يضيف إلى عقله، ويصادق بينه وبين الحجة... إلخ. وقد غدت رمزية الكتاب التي تمحو التفاصيل، وتجمل وجوه الفائدة والمضرة فيه، دلالة القيمة في علاقة الأفراد والمجتمعات به: دلالة العلم والحرية والتاريخ والتقدم والحقوق والجمال والرقي الإنساني.
[email protected]