أحمد الهلالي

أهازيج شريرة وردح قاتل!

الأحد - 21 فبراير 2016

Sun - 21 Feb 2016

تبرير الأفعال على المستوى الشخصي قد يصل إلى حالة مرضيّة لدى الإنسان تهدم حياته ربما؛ فالمبرِّر يغطي عيوبه وأخطاءه بالتبرير، وليته يراجع ذاته بعد التبرير حتى يؤخذ تبريره من باب إيقاف الهجوم المتصل، فأنا مثلا حين أخفق أو أخطئ في أمر ما؛ ألجأ إلى التبرير دفعا للوم الجارح الصادر من البعض، ثم أخفف لهجتي إلى شواطئ الاعتراف بالخطأ، وبعدها أراجع نفسي وألومها كثيرا بيني وبيني، وأحاول إصلاح أخطائي أو عدم تكرارها على أقل تقدير، لكن إن أردتم الحقيقة فليس التبرير على المستوى الشخصي موضوعي.

موضوعي يا سادة يا كرام هو (التبرير الجمعي) وخطورة هذا الاتجاه المتنامي في مجتمعنا بفعل وسائل التواصل الاجتماعي، والتي أتاحت لكل إنسان أن يعبر عن موقفه أو رؤيته تجاه كل المواقف (السمينة والغثة)، وآخر ما أقلق راحتي حادثة القتل الجماعي في مكتب تعليم (الداير) التي قام بها معلمٌ مختل حتما، فلا يصدر هذا الفعل عن سويّ على الإطلاق، فبعد فاجعتنا بالخبر الأليم، تتبعته في أكثر من موقع الكتروني، ولم أكن أتتبع الخبر أو مسببات قيام هذا المختل بفعلته الشنيعة، بل كنت أتتبع الردود الكثيرة التي تذيلت الخبر، فكانت مساحة التبرير المباشر وغير المباشر مهولة إلى درجة الرعب، ومعظم المبررين ينطلقون من منطلقات استباقية للحادث، ويتأولون أن الجاني مظلوم، ثم يسوق بعضهم وبعضهن مبررات تافهة لا يقولها عاقل أمام عظمة إزهاق من قال الله تعالى عنها (ومن قتلها فكأنما قتل الناس جميعا).

هذه الظاهرة الخطيرة غزت مجتمعنا منذ انطلاق الجهاديين لقتل الناس، حتى تطورت أدواتهم فوصلوا مرتبة التنظيمات، وانطلقت مقولات (قتل الكفار) (قتل الصليبيين) ثم ارتفعت إلى (قتل المخالفين مذهبيا) ثم تصاعدت حتى وصلت تبرير قتل رجال الأمن، وها هي اليوم تتشيأ ثقافة لها تيار جارف في تبرير العنف بكل أشكاله، وليست قضية التحرش في جدة عنكم ببعيد حين انطلقت الكثير من الأصوات تبرر للشباب أن يتحرشوا بالبنات بحجة أنهن لسن محجبات، وانطلاق الأصوات الفاحشة في تبرير كل خطأ لهيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، أو أخطاء الوعاظ وتبرير مواقف المحتسبين في التشويش على كل مناسبة وطنية أو ثقافية، أو أخطاء المعلمين أو الإعلاميين أو حتى الوزراء وغيرهم.

دائما ما يكون التبرير الجمعي للعنف رافدا مغذيا لانتهاكات حقوق الإنسان والحرمات الخمس التي صانها الشارع الحكيم، فطالما وجد الجرم تبريرا سيستمر ويتكرر، باختلاف الشخوص فإن عوقب الجاني الأول، سيتبنى فعله آخرون لأن فريق التبرير ردح أهزوجته الشريرة بعد الحادثة الأولى، فكانت بطاقة صعود مؤكدة لجانٍ آخر، لا يدفع فاتورتها إلا ضحايا العنف، فهل يعتبر نقل معلم أو تحسين مستواه، أو ترشيحه للإشراف أو مسؤولية إدارية مبررا لإزهاق نفس بشرية واحدة؟ ناهيك عن سبع أرواح معصومة بريئة؟ حتى يأتي متفيهق ويقول (أعوذ بالله من قهر الرجال) وكأننا في غابة، وهل هذه المظلوميات هي أقسى ما تعرض له البشر أو يتعرضون في مجتمعنا أو غيره؟ فماذا سيقول الطالب الذي يجلده معلمه، أو المرأة التي يركلها زوجها بقدميه؟ أو مظلوميات الفساد الإداري في الأموال والممتلكات والدماء؟

من حق الإنسان التعبير عن رأيه، وتبني فكر منظومته الثقافية، لكن عليه أن يعلم أنه مسؤول عن رأيه، وأن مسؤوليته الاجتماعية تردعه أحيانا عن التصريح ببعض الآراء التي ربما تقود إلى العنف بطريق مباشرة أو غير مباشرة، وأن يثمّن كلامه قبل أن ينشره على سامعيه أو قرائه قل عددهم أو كثر، ولنعلم أن إدانة العنف في كل حادثة وإتباعها استدراكا بـ(لكن) تعد تبريرا للحادثة من وراء ستار شفيف، ففي حادثة (الداير) كثير من الردود كانت تستنكر الحادثة، وسرعان ما تبزغ (لكن) وبعدها: (ليعلم إداريو التعليم الظالمون) وكال ما يستطيع من الشتائم، وهو يناقض استنكاره الأول، فمهما كانت درجة المظلومية؛ لا تصل أبدا إلى القتل.

الكارثة العظمى لا تأتي من البسطاء، بل ممن يعدون قادات للفكر سواء على صعيد الوعظ الديني، أو الاجتماعي أو النفسي أو الإعلامي وغيرها، فمبادراتهم إلى تبرير حوادث العنف الداخلية والخارجية بأساليب مباشرة أو غير مباشرة هي الدرس الأول الذي يتلقاه البسطاء ويسيرون على منواله، ومن هنا لا مناص من التصدي لهذه الظاهرة بأن يعلن المبرّزون على الساحة مواقف جادة وصادقة تنبذ العنف، وأن تتحرك الجهات الرقابية بجدية في تطبيق عقوبات الجرائم المعلوماتية على كل متجاوز والتشهير بعقوبته، فأمن وطننا ومجتمعنا بكل مؤسساته ومكوناته الاجتماعية خط أحمر أمام كل عابث وصاحب هوى لا يرى بابا لتسويق نفسه أو جلد خصومه إلا بتبرير العنف بأشكاله.