وردت كلمة «منطق» 15 مرة في هذا المقال

الثلاثاء - 09 فبراير 2016

Tue - 09 Feb 2016

ملاحظة 1:

عرّف القدماء علم المنطق بأنه: آلة قانونية تعصم مراعاتها الذهن عن الخطأ.

في محاضرة مادة سلوك المستثمرين طلب أستاذ المادة من كل طالب في القاعة أن يخرج ورقة صغيرة ويكتب عليها رقما عشوائيا بين 1 و100، ثم أخبرنا أنه سيقوم بحساب متوسط كل الأرقام وسيمنح جائزة تذكارية للشخص الذي يوافق رقمه نصف ذلك المتوسط. للوهلة الأولى تبدو لعبة حظ عشوائية ولا مجال فيها للتنبؤ بالنتيجة ولكن بعد لحظات من التفكير خطر في بالي أن متوسط الأرقام يجب أن يكون في المنتصف ما دمنا نختار بشكل عشوائي، وبالتالي فإن المتوسط هو 50 ونصف ذلك المتوسط 25. وقبل أن أسارع لكتابة النتيجة المذهلة وانتظر الجائزة خطر لي أنني أتشارك القاعة مع نخبة من طلاب المالية ومن المستحيل أن أكون الشخص الوحيد الذي اكتشف تلك الفكرة. لذا توقعت أن الجميع سيختار 25 وأن المنطق يفرض عليّ أن أسبقهم بخطوة واختار 12.5 كنصف المتوسط. ولكن ماذا لو فكر الجميع مرة أخرى بنفس طريقتي؟ إذا الجواب المحتمل هو 6.25.. وهكذا ظللت أكرر مراجعة حساباتي حتى اخترت الرقم صفر كأقرب رقم للجواب الصحيح. من المستحيل أن تكون الإجابة خلاف ذلك.. فأي شخص يفهم أساسيات الحساب والمنطق لا بد أن يجيب بنفس طريقتي. أليس ذلك هو نفس المنطق الذي يجعلنا نقود في طريق ما بسرعة عالية لأننا نثق أن الشخص الذي يقود أمامنا سيحافظ على سرعته ولن يضغط على المكابح فجأة؟

حين أعلن الأستاذ نتائج اللعبة لم تكن الإجابة 25 كما توقعت أول مرة ولا صفر كما توقعت بعد تفكير مطول، بل كانت رقما في المنتصف. وإذا كنت تتشارك معي المفاجأة فلا حاجة إلى إعادة حساباتك لأن الجواب الرياضي الصحيح لهذا اللغز هو الرقم صفر وهي الإجابة التي ستضمن لك الجائزة لو كنت تتنافس مع مجموعة من الكمبيوترات وليس ضد بشر يحاولون التفكير بشكل منطقي ولكنهم يفشلون على الأغلب في تحقيقه بسبب محدودية الوقت والتركيز الذي نستطيع تخصيصه لحل أي مشكلة تواجهنا، وتفاوتنا في الذكاء والخبرة والقدرة الذهنية.

في كل مرة تجد نفسك في وسط جدال محتدم لا بد أن يذكرك الآخرون بأن رأيهم هو المنطق الصحيح والفطرة السليمة فلا حجة أكبر في أي نقاش من أن تثبت أنك صاحب الرأي الأكثر عقلانية.. فالمنطق قبل كل شيء هو اللغة التي تتشاركها العقول. ولكن الإشكالية الوحيدة في هذا الرأي أنك لو اتبعت المنطق بصورة مبرمجة فسيكون مصيرك مثلي في حلي للغز السابق: وجدت الجواب وخسرت الجائزة! فالأذكى بين الجميع ليس ذلك الشخص الذي يستطيع معرفة الإجابة الصحيحة، بل هو الشخص الذي يستطيع توقع أخطاء الآخرين واستغلالها.

ولكن إذا فقدنا إيماننا في عقلانية الآخرين وتصرفهم بشكل يضمن مصلحتهم ومصلحة المجتمع المحيط بهم فأي عالم عشوائي نعيش فيه؟ ينص التعريف الدقيق للعقلانية على قدرة البشر على التصرف بشكل يحلل كل العناصر في المحيط، ومن ثم تفادي ارتكاب الأخطاء، أو على الأقل تفادي تكرارها. وبناء على هذا التعريف لا يمكننا تجريد البشر من صفتهم الأسمى: العقلانية، ولا يمكننا في الوقت ذاته الثقة بشكل أعمى في عقلانيتهم وترك مجتمعاتنا بدون حكومات أو قوانين أو تفويض للأصلح أو إشراف أو تربية. وعلى مدى العقود الفائتة نجح علم النفس إلى حد ما في اختبار حدود هذه العقلانية ووجد أننا كبشر نتجه في تفكيرنا نحو المنطق ولكن غالبا ما نتوقف قبل الوصول إلى منتهاه، والسبب خلف ذلك يتعلق بجملة من التحيّزات المبنية داخل تركيبتنا الذهنية. فعلى سبيل المثال: نحن نبحث عن الأدلة التي تدعم آراءنا وننحاز إلى ما يؤكد ما نؤمن به مسبقا لأن هويتنا أهم من الحقيقة، كما ننحاز إلى المعلومات الحاضرة في المحيط حولنا ولا نكلف أنفسنا عناء البحث عن الأسباب البعيدة لأنها أصعب، وننحاز أيضا إلى تفسير تصرفات الآخرين من واقع تجاربنا دون أن نأخذ بالاعتبار طريقتهم في التفكير أو مزاجهم الذي يشعرون به في تلك اللحظة.

وكنتيجة لهذه التحيزات فإن الأخطاء التي نرتكبها بشكل يومي ومتكرر لا تأتي في الغالب نتيجة غباء أو إهمال، بل هي جزء أساس يحكم طريقتنا في التفكير والتصرف، وهو الأمر الذي يحوّل المنطق من قانون كوني يجب أن يفهمه كل البشر إلى مجرد تفضيل يختلف من شخص لآخر تماما كما نختلف في ملبسنا وأكلنا. فحين يقوم أحدهم بترك مخلفاته على شاطئ فهو يملك منطقه الخاص بذلك التصرف: ربما يعتقد أنه لو قام بقية الناس برمي مخلفاتهم بشكل صحيح فقارورة ماء واحدة لن تشوه منظر شاطئ كامل، أو ربما يعتقد أن تصرفه يوفر وظيفة لعامل جاء من أقصى الأرض ليعيد ذلك الشاطئ إلى حالته «المنطقية». وحين يتسارع المضاربون في سوق الأسهم إلى رفع سعر سهم ما إلى أضعاف قيمته الحقيقية فهم لا يبذرون أموالهم بجنون، بل ينتظرون مستثمرا أحمق سيشتري ذلك السهم من أجل أن يبيعه على مستثمر أشد حمقا سيشتريه من أجل... وذلك في حد ذاته «منطق».

ملاحظة 2:

المنطق تفضيل شخصي!