انعتاق.. (غَصّة قصيرة)!

لم يكن يبحث عن شيء، كان الدافع هو «الخروج» فقط، وهو الهدف أيضاً، لم يكن بحاجة لمبرر منطقي أو حتى غير منطقي لأن يقرر أن يمتطي سيارته ويخرج، هذه السيارة يحس معها بالحميمية والأمان، فهي الوحيدة في هذه الدنيا التي يُلحق باسمها ضمير الملكيّة، إضافة إلى أنها تتسع أحياناً – حسب ظروف صاحبها – فتكون هي السيارة والبيت معاً، أما في أغلب الأحيان فهي الحبيبة والنديم، وهي أول من تطّلع على نزواته وأفكاره السريّة، وحتى على قصائده الرديئة التي تكون في غرض الهجاء دائماً!لم يكن هو من اختار الجهة والوجهة التي سيذهب إليها، لكنه على أية حال وجد نفسه على الطريق الدائري المُحيط بالمدينة، وهُنا ألحّ عليه تساؤل لم يكن له مغزى أكثر من إشغال نفسه بالتفكير في ملكوت الله، تساءل: لماذا وزارة المواصلات تنفذ الطرق التي لا يحتاجها الناس بشكل جيّد؟ بالطبع لم يكن بانتظار إجابة، فهو مغرم دوماً بالأسئلة، إذ يؤمن بأنها تعلّمه الكثير من المعارف، وذلك ما لا تستطيع أن تفعله الإجابات التي تملأ بطون الكتب، ومع ذلك يشعر القارئ بالجوع المعرفي كلما زاد نهمه على موائد الورق!الوقت مساء، الشمس تُقبّل خط الأفق بهدوء، وربما بالتحام محموم (أضحكه هذا التشبيه المشاكس) لكن منظر الصحراء برحابتها ولّد لديه إحساسا من (الراحة الغريبة) وولّد سؤالا: لماذا تأتي الراحة دائماً مُضافة للغرابة أو العجب؟ ألا يمكن أن تأتي وحدها متجرّدة أو حتى عارية كما هي الحقيقة – مثلا ؟ الأسئلة أحياناً تفعل ذلك، أي تقوم بفعل أو ممارسة التجريد أو الخلع، وأحياناً تقول ذات الأسئلة بالنقيض إذ تتسول الإجابة أن تقوم (بالستر)، و»التغطية»!ألهمت الصحراء التي يحول بينها وبينه أسلاك شائكة على جانب الطريق سؤالا مضغه بسخرية: دام الأثرياء امتلكوا حتى سماء المدينة، لماذا لا يتركون لي هذه الصحراء؟ واصل سخريته: لو قلتُ لهم ذلك ربما تنبهوا لقيمتها واستثمروها كمشروع بيع (مقابر للبسطاء) أمثالي، قهقه بصوتٍ عال (وهو ما لم يفعله منذ زمن طويل) وضرب بيده على مقود سيارته موجهاً لها السؤال: هل بإمكان ثمنك أن يؤمن لي مساحة قبر يا عزيزتي؟، ثم خفض صوته هامساً وكأنه لا يريدها أن تسمع: أشك في أن ثمنك قادر على توفير ثمن الكفن!أدار جهاز التسجيل فانطلق صوت أغنية شعبية قديمة يعرفها جيداً ويحفظ حتى عدد نقاط كلماتها، لكن ما جذب انتباهه هذه المرّة لم تكن الكلمات ولا الموسيقى، بل نبرة المُغني، ركن سيارته جانباً وتهيأ لإعادتها من جديد، كان بحاجة أن يسمع نبرة المغني فقط دون تأثير الكلمات أو الموسيقى، فالكلمات قالها شخص آخر، والموسيقى أتت لخدمة الكلمات أو لمساعدتها على الأقل، لكن ماذا عن المغني؟ ماذا يريد أن يقول لو لم تُفرض عليه هذه الكلمات، بعد التركيز على نبرة المغني توصل لما أراد، تمتم: كم أحب التوصل لمثل هذه النتائج التي تشعر بأنك فهمتها جيداً لكن من الصعب أن تجد لغة تستطيع شرحها للآخرين، هذا النوع من الإجابات يوازي دهشة الأسئلة!أعاد تشغيل سيارته وانطلق مجدداً، يشعر برغبة في القيادة بسرعة، رغم أنه لا يفكر بالوصول إلى أي مكان، لكنها رغبة أقوى من أن تقاوم، ونقل كل قوّته إلى قدمه اليمنى، شعر بلذة الانعتاق، وفجأة رأى ما يُشبه الجبل في طريقه، من المستحيل التفكير بتفاديه، تذكّر المقولة التي تقول إن الإنسان في اللحظات الأخيرة من حياته يرى شريط حياته أمامه يمر سريعاً، تمنّى بصدق هذه اللحظة، هناك الكثير من الأشياء يتمنى أن يراها، لكن ذلك لم يحدث!

لم يكن يبحث عن شيء، كان الدافع هو «الخروج» فقط، وهو الهدف أيضاً، لم يكن بحاجة لمبرر منطقي أو حتى غير منطقي لأن يقرر أن يمتطي سيارته ويخرج، هذه السيارة يحس معها بالحميمية والأمان، فهي الوحيدة في هذه الدنيا التي يُلحق باسمها ضمير الملكيّة، إضافة إلى أنها تتسع أحياناً – حسب ظروف صاحبها – فتكون هي السيارة والبيت معاً، أما في أغلب الأحيان فهي الحبيبة والنديم، وهي أول من تطّلع على نزواته وأفكاره السريّة، وحتى على قصائده الرديئة التي تكون في غرض الهجاء دائماً!لم يكن هو من اختار الجهة والوجهة التي سيذهب إليها، لكنه على أية حال وجد نفسه على الطريق الدائري المُحيط بالمدينة، وهُنا ألحّ عليه تساؤل لم يكن له مغزى أكثر من إشغال نفسه بالتفكير في ملكوت الله، تساءل: لماذا وزارة المواصلات تنفذ الطرق التي لا يحتاجها الناس بشكل جيّد؟ بالطبع لم يكن بانتظار إجابة، فهو مغرم دوماً بالأسئلة، إذ يؤمن بأنها تعلّمه الكثير من المعارف، وذلك ما لا تستطيع أن تفعله الإجابات التي تملأ بطون الكتب، ومع ذلك يشعر القارئ بالجوع المعرفي كلما زاد نهمه على موائد الورق!الوقت مساء، الشمس تُقبّل خط الأفق بهدوء، وربما بالتحام محموم (أضحكه هذا التشبيه المشاكس) لكن منظر الصحراء برحابتها ولّد لديه إحساسا من (الراحة الغريبة) وولّد سؤالا: لماذا تأتي الراحة دائماً مُضافة للغرابة أو العجب؟ ألا يمكن أن تأتي وحدها متجرّدة أو حتى عارية كما هي الحقيقة – مثلا ؟ الأسئلة أحياناً تفعل ذلك، أي تقوم بفعل أو ممارسة التجريد أو الخلع، وأحياناً تقول ذات الأسئلة بالنقيض إذ تتسول الإجابة أن تقوم (بالستر)، و»التغطية»!ألهمت الصحراء التي يحول بينها وبينه أسلاك شائكة على جانب الطريق سؤالا مضغه بسخرية: دام الأثرياء امتلكوا حتى سماء المدينة، لماذا لا يتركون لي هذه الصحراء؟ واصل سخريته: لو قلتُ لهم ذلك ربما تنبهوا لقيمتها واستثمروها كمشروع بيع (مقابر للبسطاء) أمثالي، قهقه بصوتٍ عال (وهو ما لم يفعله منذ زمن طويل) وضرب بيده على مقود سيارته موجهاً لها السؤال: هل بإمكان ثمنك أن يؤمن لي مساحة قبر يا عزيزتي؟، ثم خفض صوته هامساً وكأنه لا يريدها أن تسمع: أشك في أن ثمنك قادر على توفير ثمن الكفن!أدار جهاز التسجيل فانطلق صوت أغنية شعبية قديمة يعرفها جيداً ويحفظ حتى عدد نقاط كلماتها، لكن ما جذب انتباهه هذه المرّة لم تكن الكلمات ولا الموسيقى، بل نبرة المُغني، ركن سيارته جانباً وتهيأ لإعادتها من جديد، كان بحاجة أن يسمع نبرة المغني فقط دون تأثير الكلمات أو الموسيقى، فالكلمات قالها شخص آخر، والموسيقى أتت لخدمة الكلمات أو لمساعدتها على الأقل، لكن ماذا عن المغني؟ ماذا يريد أن يقول لو لم تُفرض عليه هذه الكلمات، بعد التركيز على نبرة المغني توصل لما أراد، تمتم: كم أحب التوصل لمثل هذه النتائج التي تشعر بأنك فهمتها جيداً لكن من الصعب أن تجد لغة تستطيع شرحها للآخرين، هذا النوع من الإجابات يوازي دهشة الأسئلة!أعاد تشغيل سيارته وانطلق مجدداً، يشعر برغبة في القيادة بسرعة، رغم أنه لا يفكر بالوصول إلى أي مكان، لكنها رغبة أقوى من أن تقاوم، ونقل كل قوّته إلى قدمه اليمنى، شعر بلذة الانعتاق، وفجأة رأى ما يُشبه الجبل في طريقه، من المستحيل التفكير بتفاديه، تذكّر المقولة التي تقول إن الإنسان في اللحظات الأخيرة من حياته يرى شريط حياته أمامه يمر سريعاً، تمنّى بصدق هذه اللحظة، هناك الكثير من الأشياء يتمنى أن يراها، لكن ذلك لم يحدث!

الاحد - 21 ديسمبر 2014

Sun - 21 Dec 2014

لم يكن يبحث عن شيء، كان الدافع هو «الخروج» فقط، وهو الهدف أيضاً، لم يكن بحاجة لمبرر منطقي أو حتى غير منطقي لأن يقرر أن يمتطي سيارته ويخرج، هذه السيارة يحس معها بالحميمية والأمان، فهي الوحيدة في هذه الدنيا التي يُلحق باسمها ضمير الملكيّة، إضافة إلى أنها تتسع أحياناً – حسب ظروف صاحبها – فتكون هي السيارة والبيت معاً، أما في أغلب الأحيان فهي الحبيبة والنديم، وهي أول من تطّلع على نزواته وأفكاره السريّة، وحتى على قصائده الرديئة التي تكون في غرض الهجاء دائماً!لم يكن هو من اختار الجهة والوجهة التي سيذهب إليها، لكنه على أية حال وجد نفسه على الطريق الدائري المُحيط بالمدينة، وهُنا ألحّ عليه تساؤل لم يكن له مغزى أكثر من إشغال نفسه بالتفكير في ملكوت الله، تساءل: لماذا وزارة المواصلات تنفذ الطرق التي لا يحتاجها الناس بشكل جيّد؟ بالطبع لم يكن بانتظار إجابة، فهو مغرم دوماً بالأسئلة، إذ يؤمن بأنها تعلّمه الكثير من المعارف، وذلك ما لا تستطيع أن تفعله الإجابات التي تملأ بطون الكتب، ومع ذلك يشعر القارئ بالجوع المعرفي كلما زاد نهمه على موائد الورق!الوقت مساء، الشمس تُقبّل خط الأفق بهدوء، وربما بالتحام محموم (أضحكه هذا التشبيه المشاكس) لكن منظر الصحراء برحابتها ولّد لديه إحساسا من (الراحة الغريبة) وولّد سؤالا: لماذا تأتي الراحة دائماً مُضافة للغرابة أو العجب؟ ألا يمكن أن تأتي وحدها متجرّدة أو حتى عارية كما هي الحقيقة – مثلا ؟ الأسئلة أحياناً تفعل ذلك، أي تقوم بفعل أو ممارسة التجريد أو الخلع، وأحياناً تقول ذات الأسئلة بالنقيض إذ تتسول الإجابة أن تقوم (بالستر)، و»التغطية»!ألهمت الصحراء التي يحول بينها وبينه أسلاك شائكة على جانب الطريق سؤالا مضغه بسخرية: دام الأثرياء امتلكوا حتى سماء المدينة، لماذا لا يتركون لي هذه الصحراء؟ واصل سخريته: لو قلتُ لهم ذلك ربما تنبهوا لقيمتها واستثمروها كمشروع بيع (مقابر للبسطاء) أمثالي، قهقه بصوتٍ عال (وهو ما لم يفعله منذ زمن طويل) وضرب بيده على مقود سيارته موجهاً لها السؤال: هل بإمكان ثمنك أن يؤمن لي مساحة قبر يا عزيزتي؟، ثم خفض صوته هامساً وكأنه لا يريدها أن تسمع: أشك في أن ثمنك قادر على توفير ثمن الكفن!أدار جهاز التسجيل فانطلق صوت أغنية شعبية قديمة يعرفها جيداً ويحفظ حتى عدد نقاط كلماتها، لكن ما جذب انتباهه هذه المرّة لم تكن الكلمات ولا الموسيقى، بل نبرة المُغني، ركن سيارته جانباً وتهيأ لإعادتها من جديد، كان بحاجة أن يسمع نبرة المغني فقط دون تأثير الكلمات أو الموسيقى، فالكلمات قالها شخص آخر، والموسيقى أتت لخدمة الكلمات أو لمساعدتها على الأقل، لكن ماذا عن المغني؟ ماذا يريد أن يقول لو لم تُفرض عليه هذه الكلمات، بعد التركيز على نبرة المغني توصل لما أراد، تمتم: كم أحب التوصل لمثل هذه النتائج التي تشعر بأنك فهمتها جيداً لكن من الصعب أن تجد لغة تستطيع شرحها للآخرين، هذا النوع من الإجابات يوازي دهشة الأسئلة!أعاد تشغيل سيارته وانطلق مجدداً، يشعر برغبة في القيادة بسرعة، رغم أنه لا يفكر بالوصول إلى أي مكان، لكنها رغبة أقوى من أن تقاوم، ونقل كل قوّته إلى قدمه اليمنى، شعر بلذة الانعتاق، وفجأة رأى ما يُشبه الجبل في طريقه، من المستحيل التفكير بتفاديه، تذكّر المقولة التي تقول إن الإنسان في اللحظات الأخيرة من حياته يرى شريط حياته أمامه يمر سريعاً، تمنّى بصدق هذه اللحظة، هناك الكثير من الأشياء يتمنى أن يراها، لكن ذلك لم يحدث!