الشكلية ورم في جسد الثقافة

إن المعاني المفردة والمعلومات الجزئية هي مادة المعرفة التي تتشكل منها منظومتها بكل ما تحويه من علاقات ومضامين، وتلك المعلومات والمعاني هي ما يتصوره العقل عن الحقائق الموضوعية في الخارج «سواء كان الخارج المادي أم النفسي المواجه لدائرة الوعي المسؤولة عن التسمية ووضع المفاهيم»

إن المعاني المفردة والمعلومات الجزئية هي مادة المعرفة التي تتشكل منها منظومتها بكل ما تحويه من علاقات ومضامين، وتلك المعلومات والمعاني هي ما يتصوره العقل عن الحقائق الموضوعية في الخارج «سواء كان الخارج المادي أم النفسي المواجه لدائرة الوعي المسؤولة عن التسمية ووضع المفاهيم»

السبت - 20 ديسمبر 2014

Sat - 20 Dec 2014



إن المعاني المفردة والمعلومات الجزئية هي مادة المعرفة التي تتشكل منها منظومتها بكل ما تحويه من علاقات ومضامين، وتلك المعلومات والمعاني هي ما يتصوره العقل عن الحقائق الموضوعية في الخارج «سواء كان الخارج المادي أم النفسي المواجه لدائرة الوعي المسؤولة عن التسمية ووضع المفاهيم».

وهذا المتصوَّر ليس بالضرورة مطابقا لما في الخارج؛ بل هو الصورة التي يختزنها العقل مقابل الحقيقة الموضوعية ذاتها، وتعبِّر عن المعاني المتصوَّرة ألفاظ محسوسة.

وهكذا يصبح لدينا بصدد معرفة أيّ شيء ثنائيتان: اللفظ المحسوس وصورته، والشيء المحسوس وصورته، والمعنى هنا هو العلاقة بين صورةٍ من هنا وصورةٍ من هناك «صورة اللفظ وصورة الشيء»، أي بين صورتين ذهنيّتين.

إن هذا يستدعي من العقل الحر أن يستمر دائما في التفكير والبحث، سعيا لمزيد من الكشف عن الحقائق الموضوعية كما هي في الخارج، مما يعني تعديلا مستمرا لمنظومة علاقات المعاني المختزنة في العقل لكي يكون أقرب إلى الحقائق الموضوعية للمنظومة الخارجية.

هذا العقل الحر عقل مقاصديّ يدرك جيدا الفرق بين الحقيقة في ذاتها وتصوره عن الحقيقة، فلا يخلط بين الأمرين، ويسعى دائما لتطوير نماذجه الذهنية المختزنة سعيا وراء كشف الحقيقة الموضوعية بكل ما يملكه من إمكانات نفسية ومادية.

لكن الغالب على عقول البشر الكسل والذهول والأوهام، فيخلطون بين الحقيقة الموضوعية وما تتصوره عقولهم عنها، فتنكفئ عقولهم على التأمل والنظر فيما تختزنه من صور متوهِّمة أن هذا هو سبيل المعرفة، وشيئا فشيئا تبتعد هذه العقول عن ميدان المعرفة الحقيقي «وهو الحقائق الموضوعية في الخارج» حتى تصل إلى أقصى الابتعاد وهو الانعزال عن الواقع المادي المتفاعل بالحركة المتطورة الدائبة.

وهذه العقول هي العقول الشكلية، ومعرفتها هي المعرفة الشكلية.



أمراض ثقافية



إن «شكلية المعرفة» مرض من أمراض الثقافة على المستوى الأبستيمولوجي، وهي في تحليلي الأوليّ تقوم على ثلاثة عناصر:



1 - الجهل بطبيعة العلاقة بين الاسم والمسمَّى؛ فلا يدرك العقل الشكلي أنها علاقة نسبية تعبر عن خبرته الذهنية الخاصة به وليست معبرة عن علاقة مباشرة بين اللفظ وحقيقته الخارجية، فلا يدرك أن الخبرة الخاصة ذات فقر أزلي متأصل وبحاجة أبدية إلى التعديل والتطوير المستمر لكسب مزيد من المعرفة التي لا نهاية لها.

2 - انكفاء ذاتيّ على تأمل ودرس الخبرة المكتسبة، مما يؤدي إلى انقطاع أو عزلة عن مصدر الخبرات الثري الذي لا ينفد وهو الحياة الواقعية.

ومع التوغل في هذا الانكفاء يغدو النظر والبحث شكليا، لأنه يُغفل العلاقة بين الشكل والمقصد، فينكفئ على الأشكال ظانا أنها هي موضوع المعرفة الحقيقي.

3 - بناء مقاصد بديلة تقوم في العقل الشكلي مقام القيم المعرفية الكبرى في العقل المقاصديّ، وهي القيم المولِّدة للنظر والبحث والاكتشاف، فبسبب الانقطاع عن مصدر المعرفة المقاصدية «وهو الحقائق الموضوعية الخارجية» يلجأ العقل الشكلي إلى إفراز قيَمه الشكلية من خلال خبراته الشكلية، ويتوهمها قيما عليا قادرة أن تكون محورا يدور حوله بحثه واكتشافه، وليس ما سماه مالك بن نبي مرَض «الشِّعْريّة» إلا مظهرا من أبرز مظاهر هذه القيم الشكلية البديلة التي تُعدّ محور المعرفة الشكلية.



خطورة الشكلية



إن شكلية المعرفة مظهر من مظاهر شكلية الثقافة، وإذا ما تغوّلت في المعرفة لم يسلم منها جانب من جوانبها؛ ففي المعرفة الشرعية يغلب الاهتمام بالفروع والجزئيات في مسائل العبادات والمعاملات على استنباط مقاصد الشريعة في هذه المسائل، وفي المعرفة اللغوية والأدبية يغلب الاهتمام بمسائل الصواب والخطأ بناء على متغيرات عرفية لا معايير موضوعية، كما يُهتم بالمعايير الشكلية للفصاحة والبلاغة، وذلك على حساب المقاصد اللغوية والبلاغية الكبرى كالإفادة والبيان والتوازن والاقتصاد والتأثير في النفس والسلوك (عرضنا لتفصيل هذه المقاصد في رسالتنا للدكتوراه عن العرف اللغوي)، وفي المعرفة التاريخية نرى العناية بسرد الأحداث مع الغفلة عن سنن التاريخ والاجتماع المطردة.

(أتى ابن خلدون في الوقت الضائع فلم يُفِدْ تعديلُه للمسار التائه إلا في العصر الحديث حينما نبّه المستشرقون على قيمته).

وفي المعرفة الطبيعية والكونية غلب المنهجُ القياسي المنطقي في مجالات لا تؤتي ثمارها المعرفية إلا بمنهج الملاحظة والتجريب والنقد المستمر، فأمات ذلك المنهجُ القياسي الهمم، حتى انسحب التفكير العلمي من ميدان التجريب إلى الميدان النظري البحت الذي مبدؤه الأول: «هل يصح هذا في القياس أو لا يصح»؟! وما تأخرت علوم الفلك والأرض والأحياء والطب في عصورنا الوسيطة إلا بسبب هذا المنهج العقيم الذي طغى على المعرفة إلى درجة لم تُجْدِ معها بعض المحاولات النادرة التي لا ينتظمها مشروع متكامل، وذلك كمحاولة ابن تيمية مثلا في كتابه الرد على المنطقيين، التي كان الهدف الأساس منها تحطيم منهج المتكلمين في الجانب الغيبي من المعرفة الشرعية، ولا أيضا محاولة فريدة جاءت من قلب الاختصاص العلمي لكن في الوقت الضائع كذلك؛ وهي محاولة أبي العز الجزري في كتابه الفريد في نوعه: «الجامع بين العلم والعمل النافع في صناعة الحِيَل» (علم الهندسة الميكانيكة) أن يَجْبُر الفصام النكد الذي بُلِي به العقل الشكلي بين النظر البحت والتجريب، وكما حصل مع محاولة ابن خلدون لم يُعرَف كتاب الجزري إلا في العصر الحديث عن طريق المستشرقين!! إن الشكلية ورم خفي خبيث يتوغل بصمت في جسد الثقافة والمعرفة ولا يزال مستشريا ـ إن لم يُقاوَم ـ حتى يأتي على آخر خلية مقاوِمة، فهل نعي خطورته ونواجهه بما يستحق من الكشف والعلاج؟