الجمال العصي
السبت - 06 فبراير 2016
Sat - 06 Feb 2016
جملة واحدة تكررت في غير كتاب من كتب محمد مندور، تتفق ألفاظها حينا، وتختلف حينا، ولكنها في حاليها تحمل معنى واحدا، جعل صاحب «النقد المنهجي عند العرب» يلح عليه، وكأنه اتخذه عقيدة نقدية يناضل عنها ويذود دونها، وأذكر أنني تتبعت جملته تلك، وراقبت حماسته لها، وصياله عنها، دون أن يـمل أو يكل.
وتلك الجملة التي دعا إليها الشعراء والنقاد هي: أن الشعر ليس عاطفة، وأن الشعر ليس انفعالا، إنما الشعر فن ولغة وتمكن من الأساليب، وأن من يعتقد غير هذا الرأي لا يعرف الشعر ولا يعرف الأدب ولا يعرف النقد.
وجملة مندور هذه خلاصة ما انتهى إليه النقد الأدبي، ولو قالها اليوم ناقد أدبي لقوبل بالسخر والهزء، فالذي عليه أمر الأدب في العصر الحاضر أن الأدب لغة، وأن قصارى ما يرمي إليه الناقد أن يستكشف في لغة الشعر سره وروعته وعظمته، وأن ما سوى ذلك تخرصات آمن بها الرومنطيقيون حين عدوا الشعر تعبيرا، والواقعيون حين اطرحوا كل شعر لا يعلن الثورة، ويمشي مع الناس في الشارع، وما أخذ به قبيل من دعاة التحليل النفسي، مـما نظهر على شيء من أقوالهم في كتب النقد وتاريخه.
وما جهر به مندور في تلك الحقبة المبكرة لم يكن بالأمر اليسير، فالذي عليه الأدب، والذي عليه النقد -آنئذ- أن الأدب وجدان، وأن الشعر فيض تلقائي لعاطفة مكبوتة، وأن سهمة الشاعر في نزوله على تلك العاطفة التي تنبعث على لسانه شعرا، ولم يكن هذا الرأي بالقول الذي يمكن دفعه ورده، وقد احتشد له جمهرة من كبار المنشئين والنقاد أظهرهم العقاد والمازني وشكري.
وقول مندور-وهو قول طائفة من النقاد والفلاسفة والمنشئين- له وجه، فالعاطفة لا نكاد نستبين أثرها بعيدا عن اللغة، وإن الشاعر حين ينشئ قصيدته إنما ينشئها بعد أن يتخلص من تأثيرها في وجدانه، وهذا هو القول الذي جهر به ت. س. إليوت، فغير وجه النقد.
ومع ذلك فليس جمال القصيدة بالشيء الذي يمكن بلوغه دون مكابدة وإعياء، وما هكذا الشعر العظيم، وأجمل الشعر ما يصيب أقوال النقاد ومذاهبهم في مقتل، لأنه لا يعنو لشروطهم وأحكامهم. الشعر لا يستقيد إلى عيار واحد، ولا إلى مقياس بعينه، وإنه لو كان كذلك لما تنوعت مذاهب القول فيه، ولما حار النقاد وذوو البصر بالشعر في أمره، ولكن الشعر -مهما أردنا له تعريفا وحدا- ينفر من القواعد والحدود والسدود. ونحن نقرأ القصيدة، وفي ذهننا كل ما احتشدت له كتب البلاغة، ولا نجد فيها الشعر، فأين العيب؟ أفي القصيدة أم في عدة الناقد والبلاغي؟ والجمال؟ ما الطريق إليه؟ إنه يعيي ونحن نطلبه، فلا المعيار يجدي ولا القواعد تفيد، ولن يستقيم لنا بصر بالشعر وبالجمال ما لم ننزل على شرط «الذوق».
وأنت مهما عملت على أن تقرأ قصيدة فلست بمستطيع أن تبلغ سر الجمال فيها بما سوى «الذوق»، هذه الكلمة الذائعة، التي يحمل ذيوعها في تلبسها بألوان من الغموض، ونحن مهما نحاول تعريفا للذوق، فلسنا ببالغين إلا مشارف من الظن تشبه اليقين، وما أدوات الناقد البصير بمضايق الشعر إلا ترجمة لذوق فطري تلجلج في ضميره، فأنشأ يبحث عن تعليل له بأدوات البلاغة واللغة والنقد أو ما شاء من سبل العلم بالشعر والنقد، ولن تفلح تلك الأدوات في فتح كوة على الجمال، ولو استعان بكل ما قاله أهل النظر من زمن أرسطو إلى زمننا هذا الحاضر، ما لم تبح القصيدة بأسرارها.
وتلك الجملة التي دعا إليها الشعراء والنقاد هي: أن الشعر ليس عاطفة، وأن الشعر ليس انفعالا، إنما الشعر فن ولغة وتمكن من الأساليب، وأن من يعتقد غير هذا الرأي لا يعرف الشعر ولا يعرف الأدب ولا يعرف النقد.
وجملة مندور هذه خلاصة ما انتهى إليه النقد الأدبي، ولو قالها اليوم ناقد أدبي لقوبل بالسخر والهزء، فالذي عليه أمر الأدب في العصر الحاضر أن الأدب لغة، وأن قصارى ما يرمي إليه الناقد أن يستكشف في لغة الشعر سره وروعته وعظمته، وأن ما سوى ذلك تخرصات آمن بها الرومنطيقيون حين عدوا الشعر تعبيرا، والواقعيون حين اطرحوا كل شعر لا يعلن الثورة، ويمشي مع الناس في الشارع، وما أخذ به قبيل من دعاة التحليل النفسي، مـما نظهر على شيء من أقوالهم في كتب النقد وتاريخه.
وما جهر به مندور في تلك الحقبة المبكرة لم يكن بالأمر اليسير، فالذي عليه الأدب، والذي عليه النقد -آنئذ- أن الأدب وجدان، وأن الشعر فيض تلقائي لعاطفة مكبوتة، وأن سهمة الشاعر في نزوله على تلك العاطفة التي تنبعث على لسانه شعرا، ولم يكن هذا الرأي بالقول الذي يمكن دفعه ورده، وقد احتشد له جمهرة من كبار المنشئين والنقاد أظهرهم العقاد والمازني وشكري.
وقول مندور-وهو قول طائفة من النقاد والفلاسفة والمنشئين- له وجه، فالعاطفة لا نكاد نستبين أثرها بعيدا عن اللغة، وإن الشاعر حين ينشئ قصيدته إنما ينشئها بعد أن يتخلص من تأثيرها في وجدانه، وهذا هو القول الذي جهر به ت. س. إليوت، فغير وجه النقد.
ومع ذلك فليس جمال القصيدة بالشيء الذي يمكن بلوغه دون مكابدة وإعياء، وما هكذا الشعر العظيم، وأجمل الشعر ما يصيب أقوال النقاد ومذاهبهم في مقتل، لأنه لا يعنو لشروطهم وأحكامهم. الشعر لا يستقيد إلى عيار واحد، ولا إلى مقياس بعينه، وإنه لو كان كذلك لما تنوعت مذاهب القول فيه، ولما حار النقاد وذوو البصر بالشعر في أمره، ولكن الشعر -مهما أردنا له تعريفا وحدا- ينفر من القواعد والحدود والسدود. ونحن نقرأ القصيدة، وفي ذهننا كل ما احتشدت له كتب البلاغة، ولا نجد فيها الشعر، فأين العيب؟ أفي القصيدة أم في عدة الناقد والبلاغي؟ والجمال؟ ما الطريق إليه؟ إنه يعيي ونحن نطلبه، فلا المعيار يجدي ولا القواعد تفيد، ولن يستقيم لنا بصر بالشعر وبالجمال ما لم ننزل على شرط «الذوق».
وأنت مهما عملت على أن تقرأ قصيدة فلست بمستطيع أن تبلغ سر الجمال فيها بما سوى «الذوق»، هذه الكلمة الذائعة، التي يحمل ذيوعها في تلبسها بألوان من الغموض، ونحن مهما نحاول تعريفا للذوق، فلسنا ببالغين إلا مشارف من الظن تشبه اليقين، وما أدوات الناقد البصير بمضايق الشعر إلا ترجمة لذوق فطري تلجلج في ضميره، فأنشأ يبحث عن تعليل له بأدوات البلاغة واللغة والنقد أو ما شاء من سبل العلم بالشعر والنقد، ولن تفلح تلك الأدوات في فتح كوة على الجمال، ولو استعان بكل ما قاله أهل النظر من زمن أرسطو إلى زمننا هذا الحاضر، ما لم تبح القصيدة بأسرارها.