عن المصباح الذي أسقط طائرة...
الاثنين - 01 فبراير 2016
Mon - 01 Feb 2016
في التاسع والعشرين من ديسمبر 1972 لقي 100 مسافر على متن رحلة الخطوط الشرقية المتجهة من نيويورك إلى ميامي مصرعهم بعد أن تحطمت طائرة الترايستار التي كانت تقلهم في مستنقعات فلوريدا. شكل الحادث صدمة في أوساط صناعة الطيران، فبالإضافة لكونه أسوأ حادث في تاريخ الطيران الأمريكي في حينه، فلم يمض على إطلاق أول رحلة تجارية لطائرة الترايستار أكثر من 8 شهور وهو الأمر الذي أصاب المسافرين بخيبة أمل تجاه الجيل الجديد من الطائرات النفاثة ذات الممرين والتي شكلت طائرة بوينج 747 أول أنموذج لها.
ولشهور بعد الحادث، اشتغل المجلس الوطني لسلامة النقل بإعادة تركيب حطام الطائرة ودراسة كل احتمالات الخلل الكهربائي أو الميكانيكي الذي أدى لسقوط الطائرة بدقائق قبيل موعد وصولها المفترض. لم يجد المحققون أي عيب في تشغيل الطائرة، ولكن تسجيلات قمرة القيادة أظهرت أن الطيار ومساعديه قضوا اللحظات الأخيرة من عمر الرحلة في محاولة إصلاح ما ظنوه خللا في جهاز إنزال عجلات الطائرة، ليتبين للمحققين لاحقا أن العجلة كانت تعمل بسلام، وأن الخلل لم يتجاوز احتراق مصباح صغير بقيمة 12 دولارا يضيء عند اكتمال نزول العجلة. ولكن المصباح المحترق لم يهو بطائرة الترايستار تلك الليلة، وإنما كان المزاج المتوتر للطيار واشتغال جميع الطاقم بالتحقق من نزول العجلة دون توزيع لمهام القيادة، مما أدى إلى تجاهلهم لإنذار واضح ومسموع بفقدان الطائرة لارتفاعها المفترض واتجاهها نحو الأرض، بعد أن تسبب تحريك عصا التحكم في توقف الطيار الآلي عن المحافظة على ارتفاع الطائرة، وهي المهمة التي غابت عن ذهن الطيار ومساعديه أثناء محاولتهم إصلاح مصباح بحجم رأس الإصبع.
لم تكن تلك حادثة استثنائية في تاريخ الطيران. ففي عام 1977 تصادمت طائرتا بوينج 747 على المدرج في جزر الكناري بسبب سوء التواصل بين الطيار ومساعديه وبرج المراقبة. وفي عام 1978 تحطمت طائرة تابعة لشركة يونايتد في ضواحي مدينة بورتلاند بسبب نفاد الوقود أثناء اشتغال الطيار بمحاولة إصلاح خلل في عجلة الهبوط وتجاهله للإنذارات المتكررة من مساعديه حول الكارثة التي تنتظرهم. وإلى وقتنا الحاضر، ما زالت الأخطاء البشرية تشكل قرابة 65 % من مجمل أسباب حوادث الطيران حول العالم. وإذا كنت تقرأ هذا المقال على متن طائرة فيجب ألا ترتبك، لأن شركات الطيران أصبحت تدرب طياريها على أساسيات توزيع المهام وإدارة الفريق وبروتوكولات التواصل داخل قمرة القيادة.
ولكن هذه الحالات تعبر بشكل دقيق عن معضلة التقدم العلمي والتقني للحضارة البشرية. فبعد 8 عقود من التجارب العلمية التي نجحت في تحدي الجاذبية وقوانين الفيزياء من أجل قطع المسافات بين القارات والمحيطات، وحتى زيارة الكواكب الأخرى في المجرة باستخدام آلة تزن مئات الأطنان، ما زلنا نجهل الكثير من معضلات السلوك البشري التي تمكن أخطاء بشرية بسيطة نمارسها بشكل غير مقصود من إفناء كل هذا الجهد العلمي والتقني، وإفناء مئات الأرواح والأحلام معه. نعم نستطيع التحكم عن بعد بمركبة تسبح في الفضاء العميق بسرعة 56 ألف كيلو متر في الساعة، ولكن ما زلنا لا نملك تفسيرا حتميا لإقدام البشر على قيادة مركباتهم الأرضية بسرعة تجعلهم عرضة لموت محقق في حالة حدوث أي طارئ. ونحن على يقين من قدرتنا على إيجاد دواء للسرطان في المستقبل القريب، ولكن لا نملك القدرة الأكيدة على إقناع فرد واحد بالتوقف عن التدخين حتى لا يصبح من منتظري ذلك الدواء. ونعم نستطيع بناء قواعد اقتصادية تحكم تجارة البشر واستهلاكهم حول العالم بأدق التقديرات، ولكن نعجز عن فهم الحمى التي تصيب المضاربين في سوق الأسهم وتدفعهم إلى تضييع ثرواتهم بحثا عن أحلام يقظتهم. والأكثر إحباطا من كل ذلك.. قدرتنا على استخدام العلوم والتقنية للتنبؤ بالكوارث التي تنتظر كوكبنا في المستقبل نتيجة لاستهلاكنا غير المسؤول، وعجزنا في ذات الوقت عن إقناع الساسة المشرعين بسن القوانين اللازمة لتفادي تلك الكوارث.
جزء من معضلة فهمنا للسلوك البشري ونتائجه على حاضر ومستقبل الإنسان هو قدرتنا كبشر على تفسير تصرفاتنا باستخدام تجاربنا الشخصية وتعميمها، حتى لو كنا نعلم مسبقا خطأ هذا التفسير. فما يشغلنا حقا ليس فهم العالم وإنما تفسيره بطريقة تبدو منطقية لنا، حتى لو خالفت كل الأدلة المبنية على الإحصاء والتجربة. وبسبب هذا التفسير القاصر لسلوكياتنا نعتقد أن دراسة سلوك البشر لا تعدو كونها إعادة إنتاج للبديهيات التي نعرفها منذ مئات السنين، وأن الذكاء البشري يجب أن يصرف على إكمال ما لم يفهمه أينشتاين عن الكون، أو اختراع الجيل التالي من الأجهزة الذكية أو البحث عن عنصر إضافي يضاف إلى الجدول الدوري أو ابتكار دواء يعالج الزهايمر. ورغم إيماني بقدرتنا على تحقيق كل ذلك.. فإن الأسئلة التي سأحاول بحثها عبر هذا المقال تتعلق بنا نحن.. بسلوكياتنا التي تذيب الجليد في القطبين، أو عاداتنا الصحية التي تجعل المضادات الحيوية عاجزة عن مقاومة أجيال جديدة من البكتيريا، أو طريقتنا في الحكم على الآخرين التي قد تكون إحدى نتائجها شخصا يختار أن يرتدي حزاما ناسفا ليصافح به المصلين في يوم الجمعة!
[email protected]
ولشهور بعد الحادث، اشتغل المجلس الوطني لسلامة النقل بإعادة تركيب حطام الطائرة ودراسة كل احتمالات الخلل الكهربائي أو الميكانيكي الذي أدى لسقوط الطائرة بدقائق قبيل موعد وصولها المفترض. لم يجد المحققون أي عيب في تشغيل الطائرة، ولكن تسجيلات قمرة القيادة أظهرت أن الطيار ومساعديه قضوا اللحظات الأخيرة من عمر الرحلة في محاولة إصلاح ما ظنوه خللا في جهاز إنزال عجلات الطائرة، ليتبين للمحققين لاحقا أن العجلة كانت تعمل بسلام، وأن الخلل لم يتجاوز احتراق مصباح صغير بقيمة 12 دولارا يضيء عند اكتمال نزول العجلة. ولكن المصباح المحترق لم يهو بطائرة الترايستار تلك الليلة، وإنما كان المزاج المتوتر للطيار واشتغال جميع الطاقم بالتحقق من نزول العجلة دون توزيع لمهام القيادة، مما أدى إلى تجاهلهم لإنذار واضح ومسموع بفقدان الطائرة لارتفاعها المفترض واتجاهها نحو الأرض، بعد أن تسبب تحريك عصا التحكم في توقف الطيار الآلي عن المحافظة على ارتفاع الطائرة، وهي المهمة التي غابت عن ذهن الطيار ومساعديه أثناء محاولتهم إصلاح مصباح بحجم رأس الإصبع.
لم تكن تلك حادثة استثنائية في تاريخ الطيران. ففي عام 1977 تصادمت طائرتا بوينج 747 على المدرج في جزر الكناري بسبب سوء التواصل بين الطيار ومساعديه وبرج المراقبة. وفي عام 1978 تحطمت طائرة تابعة لشركة يونايتد في ضواحي مدينة بورتلاند بسبب نفاد الوقود أثناء اشتغال الطيار بمحاولة إصلاح خلل في عجلة الهبوط وتجاهله للإنذارات المتكررة من مساعديه حول الكارثة التي تنتظرهم. وإلى وقتنا الحاضر، ما زالت الأخطاء البشرية تشكل قرابة 65 % من مجمل أسباب حوادث الطيران حول العالم. وإذا كنت تقرأ هذا المقال على متن طائرة فيجب ألا ترتبك، لأن شركات الطيران أصبحت تدرب طياريها على أساسيات توزيع المهام وإدارة الفريق وبروتوكولات التواصل داخل قمرة القيادة.
ولكن هذه الحالات تعبر بشكل دقيق عن معضلة التقدم العلمي والتقني للحضارة البشرية. فبعد 8 عقود من التجارب العلمية التي نجحت في تحدي الجاذبية وقوانين الفيزياء من أجل قطع المسافات بين القارات والمحيطات، وحتى زيارة الكواكب الأخرى في المجرة باستخدام آلة تزن مئات الأطنان، ما زلنا نجهل الكثير من معضلات السلوك البشري التي تمكن أخطاء بشرية بسيطة نمارسها بشكل غير مقصود من إفناء كل هذا الجهد العلمي والتقني، وإفناء مئات الأرواح والأحلام معه. نعم نستطيع التحكم عن بعد بمركبة تسبح في الفضاء العميق بسرعة 56 ألف كيلو متر في الساعة، ولكن ما زلنا لا نملك تفسيرا حتميا لإقدام البشر على قيادة مركباتهم الأرضية بسرعة تجعلهم عرضة لموت محقق في حالة حدوث أي طارئ. ونحن على يقين من قدرتنا على إيجاد دواء للسرطان في المستقبل القريب، ولكن لا نملك القدرة الأكيدة على إقناع فرد واحد بالتوقف عن التدخين حتى لا يصبح من منتظري ذلك الدواء. ونعم نستطيع بناء قواعد اقتصادية تحكم تجارة البشر واستهلاكهم حول العالم بأدق التقديرات، ولكن نعجز عن فهم الحمى التي تصيب المضاربين في سوق الأسهم وتدفعهم إلى تضييع ثرواتهم بحثا عن أحلام يقظتهم. والأكثر إحباطا من كل ذلك.. قدرتنا على استخدام العلوم والتقنية للتنبؤ بالكوارث التي تنتظر كوكبنا في المستقبل نتيجة لاستهلاكنا غير المسؤول، وعجزنا في ذات الوقت عن إقناع الساسة المشرعين بسن القوانين اللازمة لتفادي تلك الكوارث.
جزء من معضلة فهمنا للسلوك البشري ونتائجه على حاضر ومستقبل الإنسان هو قدرتنا كبشر على تفسير تصرفاتنا باستخدام تجاربنا الشخصية وتعميمها، حتى لو كنا نعلم مسبقا خطأ هذا التفسير. فما يشغلنا حقا ليس فهم العالم وإنما تفسيره بطريقة تبدو منطقية لنا، حتى لو خالفت كل الأدلة المبنية على الإحصاء والتجربة. وبسبب هذا التفسير القاصر لسلوكياتنا نعتقد أن دراسة سلوك البشر لا تعدو كونها إعادة إنتاج للبديهيات التي نعرفها منذ مئات السنين، وأن الذكاء البشري يجب أن يصرف على إكمال ما لم يفهمه أينشتاين عن الكون، أو اختراع الجيل التالي من الأجهزة الذكية أو البحث عن عنصر إضافي يضاف إلى الجدول الدوري أو ابتكار دواء يعالج الزهايمر. ورغم إيماني بقدرتنا على تحقيق كل ذلك.. فإن الأسئلة التي سأحاول بحثها عبر هذا المقال تتعلق بنا نحن.. بسلوكياتنا التي تذيب الجليد في القطبين، أو عاداتنا الصحية التي تجعل المضادات الحيوية عاجزة عن مقاومة أجيال جديدة من البكتيريا، أو طريقتنا في الحكم على الآخرين التي قد تكون إحدى نتائجها شخصا يختار أن يرتدي حزاما ناسفا ليصافح به المصلين في يوم الجمعة!
[email protected]