أثر سلطة الواقع في العقل الفقهي

الأربعاء - 27 يناير 2016

Wed - 27 Jan 2016

لا خلاف بين أحد من المسلمين على أن المصدر الأول للفقه هو النص الديني قرآنا وسنة، ولكن هذا النص خط مسطور في الكتب لا ينطق، إنما يتكلم به الرجال، كما عبَّر بذلك علي بن أبي طالب، أي أن العقل الفقهي هو من يقوم بتفسير النص الديني، وتنزيله على الوقائع. والعقل الفقهي نفسه يشكله الواقع، وظروفه، وأحداثه، ومستجداته، وأعرافه، وتقاليده، أي أن ثمة علاقة جدلية بين النص الديني والواقع، ومن يقرأ النصوص الدينية يجد أنها جعلت للعرف أو العادة – وهو ما تعارف الناس عليه واعتادوه – سلطة في تفسير بعض النصوص، وذلك أن النص الشرعي قد يأتي بإثبات حكم، ويترك تقديره كمية، أو عددا، أو وصفا للعرف، كما في قوله تعالى: «وعلى المولود له رزقهن وكسوتهن بالمعروف» فالنص أمر هنا بالنفقة والكسوة، وترك تقديرهما لما تعارف الناس عليه. ولهذا قعَّد الأصوليون القاعدة المشهورة (العادة محكَّمة)، وفرَّعوا عنها عدة قواعد مثل (العبرة للغالب الشائع لا للنادر)، و(المعروف عرفًا كالمشروط شرطًا)، و(التعيين بالعرف كالتعيين بالنص)، وليست العادة محكمة بإطلاق بل اشترط الأصوليون ألا يخالف العرف أو العادة أصلا أو نصا شرعيا، أو قاعدة متفقا عليها، أو إجماعا، لكن مع هذا الاحتراز الذي أجمع عليه الأصوليون إلا أن الأثر الهائل للواقع بظروفه، وعاداته، وتقاليده، ومواضعاته شكل سلطة على العقل الفقهي، جعلت الفقيه قد يؤصل أحكاما دينية متأثرا بأعراف وعادات واقع الناس مع مخالفتها لكليات الشريعة المُحْكمة. فمثلا الشريعة نصت على أن الناس سواسية، لا فضل لعربي على أعجمي إلا بالتقوى، ومع إقرار العقل الفقهي بهذا إلا أن أثر الواقع جعل الفقهاء يؤصلون أحكاما تخالف ذلك، ومن الأمثلة على ذلك الأحكام التي أصلها الفقهاء في اشتراط الكفاءة في النسب في الزواج، وقد طرحوا تأصيلهم الفقهي في هذه القضية بما يشبه تشريع الطبقية في المجتمع المسلم. وباستعراض أكثر من 150 كتابا من الكتب الفقهية المعتمدة للمذاهب الأربعة نجد أنهم جعلوا المجتمع طبقات في قضية الكفاءة في النسب، فالهاشمي والمطلبي أكفاء بعض، ثم يأتي بعدهم بقية بطون قريش فهم أكفاء بعض، ثم بقية قبائل العرب فهم أكفاء بعض، ثم في المرتبة الأخيرة الأعاجم، وهم – أيضًا- طبقات تأتي في المرتبة الأولى من كان من نسل المسلمين، ثم بعده من كان أبواه الأقربان مسلمَين، ثم في المرتبة الأخيرة من كان مسلما وأبواه كافران، وجعلوا أصحاب الصنائع طبقات، ففي المرتبة الدنيا الكناسون، والمدلكون في الحمامات العامة، وكاسحو أوساخ الحمامات، والزبالون فهم أكفاء بعض، ثم طبقة أعلى منهم وهم الحجامون، والحاكة، والدباغون، والحلاقون، وسائسو الخيل، والخبازون، وحراس البيوت والمزارع فهؤلاء أكفاء بعض، ثم طبقة أعلى منهم وهم أصحاب الحرف كالباعة والصاغة فهؤلاء أكفاء بعض، وجعلوا للولي حق فسخ الزواج، ولعصبة المرأة كابن العم الحق بفسخ النكاح، وعللوا ذلك بدفع العار عن العصبة، ومجمل هذا التقعيد هو قول كثير من فقهاء المذاهب الأربعة. ومن نماذج تأثير أعراف المجتمع على العقل الفقهي جعل طبقة من المجتمع في مرتبة أعلى من بقية الطبقات، فقد نصَّ جمع من الفقهاء على أنه ليس من القذف وصف إنسان بـ(الحمار، أو الخنزير، أو البقرة)، ومن فعل هذا لم يعزَّر، واستثنوا من ذلك ما إذا وُصِف بذلك قرشيٌّ، أو فقيه، أو صاحب مكانة وجاه في الناس، فإن من وصفه بذلك يعزَّر؛ لأن «مثل هذا يعدُّ شينًا في حقه، وتلحقه الوحشة بذلك» كما هي عبارة الفقهاء. ومن نماذج تأثير الواقع على العقل الفقهي تفريقهم في قبول الشهادة أمام القاضي، فقد اختلفوا في قبول شهادة أصحاب المهن المتدنية، جاء في المهذب في الفقه الشافعي: «وَاختلفوا – أيضا - فِي الحرف الدنية فمنهم من لم يقبل شهادة الدباغ، والكناس، والحجام، والمدلك، ومن يتعاطى القذر؛ لأن اختياره هذه الحرفة يشعر بخسته، ومنهم من قال: تقبل إذا كان ذلك صنعة آبائه، ولائقا بأمثاله وفي الحائك طريقان، قال القفال: لا فرق بينه وبين الخياط، وقال بعضهم: جرت العادة بالإزراء بهم، فاختياره مع ذلك كاختيار الكنس والحجامة». هذه نماذج قليلة تبين عن الدور الذي يحدثه الاجتماع البشري في فهم الدين، فالبيئة الاجتماعية بما فيها من أحداث، ومصالح، وصراعات تمارس سلطة هائلة على العقل الفقهي في تنزيله النص الديني على ما يستجد من وقائع، وهذا التأثير أمر بدهي، فالفقيه إنسان، والإنسان - أي إنسان - لا يستطيع الانفكاك من بيئته وأعرافها وتقاليدها.