قروش مكة في العصر العثماني بكرسي الملك سلمان
د
د
الأربعاء - 02 ديسمبر 2015
Wed - 02 Dec 2015
د.
عمرو عبد العزيز منير
تعد مكة المكرمة أكبر خزينة للنقود المتداولة فى العالم الإسلامى حيث كانت سوق كبير تباع فيه وتشترى كل السلع من مختلف الدول بكافة أنواع النقود فالنقود أساس اقتصادها وميزان تعاملها الدينى والمدنى ففيها تتجلى مظاهر الدولة وتنكشف بواطن أوضاعها ، ونظراً لما تمتعت به مكة المكرمة فأصبحت سوقاً لكافة أنواع النقود العثمانية الذهبية والفضية والنحاسية ضرب مصر وبغداد والبصرة والموصل وطرابلس الغرب والجزائر وتلمسان بالإضافة إلى النقود العثمانية التى ضربت فى البلقان وآسيا الصغرى والعاصمة إستانبول كل هذه النقود لعبت دوراً مهمًا ورئيسياً فى عمليات التداول النقدى فى العصر العثمانى ، ولم يكن لبلاد الحجاز إبان القرن الـ 12هـ/18م عملة موحدة وإنما كانت هناك مجموعة من النقود المستخدمة التى تعامل بها المكيون أو الوافدون من الحجاج والمجاورين تبعاً لأقاليمهم وذلك لإحداث نوعاً من المرونة فى التعاملات المالية بين الناس وكتاب" النقود المتداولة فى مكة المكرمة فى العصر العثمانى حتى نهاية القرن الثاني عشر الهجري" لمؤرخ النقود الشاب أحمد محمد يوسف والصادر أخيرًا عن كرسي الملك سلمان بن عبد العزيز لدراسات تاريخ مكة المكرمة بجامعة أم القرى يعد أحد الإصدارات المائة الصادرة عن الكرسي والتي تؤكد مدى استئثار التاريخ المكي باهتمام الباحثين والمؤرخين من خلال دراسات علمية تميزت بالرصانة والموضوعية وشمولها الزمني لعصور تاريخ مكة المتعاقبة منذ العصر القديم إلى التاريخ الحديث والمعاصر مما يسهم في تعميق المعرفة بتاريخها عبر العصور وفق منهج تاريخي صحيح ، وآليات بحثية أصيلة وحديثة .
الدراسة تتناول أهم موارد مكة المكرمة المالية خلال العصر العثمانى ، وهى الأموال التى كانت ترسل إلى أهل مكة وحجاج بيت الله الحرام والتى تمثلت فى الصرة الشريفة من قبل الدولة العثمانية وولاياتها مثل مصر وبلاد الشام ، بالإضافة إلى الإمدادات المالية من كافة الدول الإسلامية مثل دولة المغول الهنود ، وكذلك الأموال الواردة مع حجاج بيت الله الحرام فضلاً عن تجارة أهل مكة وما اكتسبوه من أموال بفضل هذه التجارة ، وحصر لأعداد النقود الواردة إلى مكة المكرمة خلال العصر العثمانى وقد مثل "القرش المكاوي" ظاهرة تاريخية مهمة كون أسمها مرتبط بمدينة مكة المكرمة ، ومن هنا فقد أوضح أندرية ريمون من خلال دراسته لسجلات المحاكم الشرعية فى القاهرة إلى قلة الإشارات المحدودة بشأن هذه القروش والتى عرفت باسم القرش المكاوى أو القرش الحجازى Girs Higazi ، وأقدم الإشارات التى وردت عن تلك القروش يرجع لعام1100هـ/ 1729م.
وعندما نتتبع هذا النوع من القروش نجد أن الكتب والمصادر التاريخية لم تشر من قريب أو بعيد إلى مثل هذا المسمى من القروش ، وعلى الجانب الآخر كانت وثائق سجلات المحاكم الشرعية لها السبق الأكبر فى التعريف بمسميات هذه النوعية من القروش بالإضافة إلى أسعار صرفها المختلفة أمام النقود الأخرى نظراً لما هذه الوثائق من دور كبير فى التعاملات النقدية .
وقد كشفت وثائق سجلات المحاكم الشرعية فى بلاد الشام عن هذا النوع من القروش المكاوية خلال العصر العثمانى والذى عرف بمسميات عدة منها "القروش المكاوى" أو"القرش الحجاز" أو "القروش الحجازية" أو "قروش مكة".
وفى حقيقة الأمر أن هذه النقود لم تضرب فى الأراضي الحجازية وبالأخص مكة لم توجد بها دار ضرب للنقود فى العصر العثمانى بل اعتمدت الأراضى الحجازية على الأموال الوافدة إليها من مخصصات الحرمين الشريفين التى تصرف من ريع الأوقاف التى يتم وقفها فى الولايات العثمانية وبخاصة مصر .
ومع الدراسة فى المتاحف نستطيع القول أنه لا يوجد قروش بعينها تم سكها بمسمى القروش المكاوية ، وإنما هى ريالات الإمبراطورة ماريا تريزا Maria Theresa والتى حكمت النمسا والمجر وبوهمية فى الفترة من 1152-1193هـ/1740-1780م وبدأت فى ضرب هذه الريالات لأول مرة سنة 1164هـ/1751م ، وهذه النوعية امتازت بصورة الإمبراطورة ماريا تريزة ، وتميزت بجودة عيارها وجلاء محيطها الدائرى ومقاومة سبيكتها القوية لأعمال القص ، ويعد التالير النمساوى من أهم النقود الأجنبية الفضية التى سادت عملية التداول النقدى فى أسواق الشرق العربى.
والدليل الذى يؤكد ذلك أنه عثر على مجموعة من ريالات ماريا تريزا قد نقش على صورة وجهها عبارة (نجد أو الحجاز) وربما تم القيام بهذا الآمر نظراً لأن هذه النقود متداولة فى الأراضى المقدسة وعليها صورة لسيدة أجنبية عارية الرأس فتم طمس ملامح وجه ماريا تريزا لحرمة الأراضى المقدسة المتداولة وحرمة الرسوم الآدمية على النقود المتداولة بها ، وسك عبارة نجد أو الحجاز عليها تمييزاً لها على أن تداولها تم فى بلاد الحجاز ، وهذا إن دل يدل على مدى قوة مكة المكرمة ومكانتها الدينية فى التحكم فى أنواع النقود الأوربية التى تداولت بها خلال تلك الفترة وفرض السيادة الدينية على هذه النقود الأوربية ، بالإضافة إلى تأكيد قبول هذه النقود وتداولها في بلاد الحجاز ونجد .
الدراسة تؤكد أن الدولة العثمانية سارعت فى نشر القروش وطرحها للتداول فى مكة منذ بداية سكها فى أستانبول ويؤكد ذلك تداول القروش فى أسواق النقد بمكة فى عهد السلطان سليمان الثانى فى محرم 1102هـ/1690م ، ونظراً لما للقروش من قابلية فى عمليات البيع والشراء استمر تداولها طوال القرن الـ12هـ/18م ما بين عام 1114هـ/1702 ، وعام 1140هـ/1727م ، كما أشارت الوثائق العثمانية إلى تداول القروش فى مكة ضمن المعاملة الرايجة فى الحرمين الشريفين .
أشارت الدراسة إلى تنوع القروش المتداولة فى مكة المكرمة ما بين القروش الديوانية (الكاملة) الوزن والعيار والتى ظهرت فى معاملات سنة 1117هـ/1705م ، كما أن أسواق النقد فى مكة لم تخلو من القروش الشرك أى القرش البالى الواهن غير السليم وكان يساوى 40 ديوانى ، ويقصد بالقروش الشرك أى النقد المعدنى ذو العيار المنخفض نظراً لآن النقود الفضية مغشوشة بسبب قلة الفضة فى تلك النقود إضافة إلى تداول القرش الإسباني الذي كان أكثر النقود الفضية المتداولة فى الدولة العثمانية منذ القرن 10هـ/16م ، وغطت سوق النقد العثمانى فأصبحت عملة تعاقد أى تتم العقود التجارية على أساسها فى كافة المعاملات التجارية ولم تخل الوثائق من وجودها كعملة مقبولة تتميز بجودة عياره ونقاء الفضة فيها واستواء حوافه حيث استخدمت فى صناعته المخرطة ساد كافة المعاملات التجارية ، أما عن نقوشه فقد نقشت صورة الملك على أحد وجهيه وصورة أعمدة هرقل على الوجه الأخر ، ومن ثم أطلق عليه أسم القرش أبو مدفع نسبة لشكل العمودين .
وظهرت القروش الأسبانية متداولة فى مصر وبلاد الشام بمسميات شعبية ومنها القروش الريالية والقرش الريال والقروش الفضة الريالية الكبار ، ولم تتغير نفس المسيات فى مكة المكرمة حيث وردت إشارات إلى تداول القرش الأسبانى فى مكة المكرمة خلال العصر العثمانى كعملة مقبولة الدفع بين الناس تتم بها عمليات البيع والشراء ومنها إشارة إلى "الريال الأسبانى" فى سنة 1111هـ/1699م فحصل بذلك تعب للناس ، كما عُرف أيضاً فى مكة المكرمة بمسمى "القرش الريال" فى سنة 1114هـ/1702م .
الراسة رغم تخصصها الدقيق إلا أنها تضمن المتعة حتى لغير المتخصصين.