حجر «زيوس» وإشكالية وعي البشرية بالموت
الخميس - 24 أكتوبر 2019
Thu - 24 Oct 2019
لطالما تسربت أسئلة الموت للعقول البشرية منذ أن وعت حقيقة أنها كائنات تموت. تدافعت تلك الأسئلة تمتطي الأفكار، تغرس في الذوات الواعية بأن الولادة مقدمة حتمية للموت فيتعاطى الإنسان جراء ذلك مع هذه الحقيقة على مستويين، كلي وفردي، وينتهي به المطاف بإدراك أن الموت وعاء الحياة! حيث تتلاشى الذوات البشرية في الوجود الواسع، تسبح بعيدا عن ثنائية الروح والجسد يعقبها النسيان، بعد ذلك يلملم ما تبقى ويمضي مع أسراب الأيام يصحبها في رحلتها الأخيرة نحو الفناء.
أمر مفزع أن تخلو الذاكرة البشرية من أشخاص كان لهم حضورهم الطاغي، أن تفرغ الأحداث اليومية من كياناتهم، أن تتركهم الأيام هناك في قبضة الماضي وتأتي دونهم! وربما هذا التصور المرعب هو ما شغل الإنسان الباحث عن الخلود، ففكرة استمرارية الحياة بينما هو خارجها رغم ما يملكه من قوة وعي، وقوة حب، جعله يتساءل بحرقة: كيف لذلك الكيان أن يتلاشى؟ كيف لذلك الزخم من الأحداث والعلاقات والمشاعر أن تقتلعه رياح الزمن العاتية؟
الموت حقيقة مؤلمة تجرعتها البشرية منذ نشأتها الأولى عندما وقف الإنسان البدائي عاجزا أمامه، ولم يجد سوى أن يقدسه ويعلي من شأنه بممارسة طقوس جنائزية مهيبة، بينما تُشعل الليالي الكالحة في نفسه جذوة القلق والاشتياق، فيطلق العنان لخياله يجمع النجوم المتلألئة يلفها حول عنقه، يسكب البحار على حواف الصحراء يصنع جزيرة أحلامه، وينسج من الظلام المتدلي حوله خيوطا يطرز بها الأساطير، محاولا فهم تلك القوة الخفية التي جرعته مرارة الفقد وجعلت ذاته مسرحا مفتوحا للمخاوف، ومنذ ذلك الحين لم تكف العقول البشرية عن البحث في خفايا الموت وما بعده محاولة بذلك إيجاد منفذ يؤدي بها للخلود.
في بابل نُسجت تفاصيل أعظم ملحمة بشرية تصور ما يختلج النفوس من خوف من الموت وقلق وجودي وبحث عن الخلود، فخلف أسوار مدينة أوروك يقع «جلجامش» العظيم أسيرا لفكرة الموت ويقرر الخروج بحثا عن الخلود في رحلة شاقة يصارع فيها الوحوش، ويعبر البحار يبحث عمن تبقى بعد الطوفان ليسأله عن سر الخلود ويدرك بعدها أنه لن ينال الحياة الأبدية، وإنما الخلود يكمن في الأعمال التي يقدمها الإنسان للبشرية، هكذا أيقن وهو عائد من رحلة البحث عن الخلود عندما رمق أسوار مدينته العظيمة من بعيد قبل أن يسقط ميتا.
وفي الميثولوجيا الإغريقية يلاحظ كبير الآلة «زيوس» أن البشر لا يموتون! غضب لذلك غضبا شديدا وعندما تحقق من الأمر وجد أن «سيزيف» ذلك المخادع خدع إله الموت واستطاع أن يكبله بالأغلال ويحتجزه داخل حفرة كبيرة، تدخل كبير الآلهة وفك أسره، وعاقب «سيزيف» بأن جعله يحمل صخرة كبيرة من أسفل الجبل إلى أعلاه، وما إن يصل قمة الجبل حتى تتدحرج الصخرة فيعاود الكرة دون نهاية وإلى الأبد، وحتى هذا النصر المرتبك في خيال البشرية على الموت كان نتاجه الشقاء والعذاب.
هذا التناول البسيط للموت جاء بعده تناول أكثر عمقا، قدمته الفلسفة منذ ظهورها، فالفيثاغورسية مثلا ترى الموت انعتاق الروح من سجنها وتحررها من الخطايا. على عكس المثالية المتأخرة التي همشت الموت بسبب أنها ترى الذات لا يجب أن تشعر بشخصيتها الكاملة فهي تذوب في الكل، أما الوجودية فقد عنت بالموت بشكل كبير، ففي أحد تياراتها يقدم الموت على أنه بلوغ النفس البشرية النضج والاكتمال.
ورغم كل ذلك تبقى تجربة الموت تجربة خاصة! يعيشها كل إنسان بشكل مختلف رغم تشابه الشكل العام لها! ويظل التفاوت في التعاطي مع مفهومه سائدا، وربما كان عبدالرحمن بدوي أكثر تجليا وهو يفتش في خبايا الموت ليخلص بأنه ليس مشكلة بالنسبة للإنسان الساذج، لكونه يملك شعورا ضعيفا بالشخصية، بينما هو مشكلة حقيقية لمن يؤكدون ذواتهم ويشعرون بها بشكل كبير. وتظل التفسيرات والمخاوف ويظل الموت هو الإشكالية الكبرى التي تواجه البشرية. ويبقى وهم الخلود يداعب خيالها من حين لآخر.
Sm9Sultan@
أمر مفزع أن تخلو الذاكرة البشرية من أشخاص كان لهم حضورهم الطاغي، أن تفرغ الأحداث اليومية من كياناتهم، أن تتركهم الأيام هناك في قبضة الماضي وتأتي دونهم! وربما هذا التصور المرعب هو ما شغل الإنسان الباحث عن الخلود، ففكرة استمرارية الحياة بينما هو خارجها رغم ما يملكه من قوة وعي، وقوة حب، جعله يتساءل بحرقة: كيف لذلك الكيان أن يتلاشى؟ كيف لذلك الزخم من الأحداث والعلاقات والمشاعر أن تقتلعه رياح الزمن العاتية؟
الموت حقيقة مؤلمة تجرعتها البشرية منذ نشأتها الأولى عندما وقف الإنسان البدائي عاجزا أمامه، ولم يجد سوى أن يقدسه ويعلي من شأنه بممارسة طقوس جنائزية مهيبة، بينما تُشعل الليالي الكالحة في نفسه جذوة القلق والاشتياق، فيطلق العنان لخياله يجمع النجوم المتلألئة يلفها حول عنقه، يسكب البحار على حواف الصحراء يصنع جزيرة أحلامه، وينسج من الظلام المتدلي حوله خيوطا يطرز بها الأساطير، محاولا فهم تلك القوة الخفية التي جرعته مرارة الفقد وجعلت ذاته مسرحا مفتوحا للمخاوف، ومنذ ذلك الحين لم تكف العقول البشرية عن البحث في خفايا الموت وما بعده محاولة بذلك إيجاد منفذ يؤدي بها للخلود.
في بابل نُسجت تفاصيل أعظم ملحمة بشرية تصور ما يختلج النفوس من خوف من الموت وقلق وجودي وبحث عن الخلود، فخلف أسوار مدينة أوروك يقع «جلجامش» العظيم أسيرا لفكرة الموت ويقرر الخروج بحثا عن الخلود في رحلة شاقة يصارع فيها الوحوش، ويعبر البحار يبحث عمن تبقى بعد الطوفان ليسأله عن سر الخلود ويدرك بعدها أنه لن ينال الحياة الأبدية، وإنما الخلود يكمن في الأعمال التي يقدمها الإنسان للبشرية، هكذا أيقن وهو عائد من رحلة البحث عن الخلود عندما رمق أسوار مدينته العظيمة من بعيد قبل أن يسقط ميتا.
وفي الميثولوجيا الإغريقية يلاحظ كبير الآلة «زيوس» أن البشر لا يموتون! غضب لذلك غضبا شديدا وعندما تحقق من الأمر وجد أن «سيزيف» ذلك المخادع خدع إله الموت واستطاع أن يكبله بالأغلال ويحتجزه داخل حفرة كبيرة، تدخل كبير الآلهة وفك أسره، وعاقب «سيزيف» بأن جعله يحمل صخرة كبيرة من أسفل الجبل إلى أعلاه، وما إن يصل قمة الجبل حتى تتدحرج الصخرة فيعاود الكرة دون نهاية وإلى الأبد، وحتى هذا النصر المرتبك في خيال البشرية على الموت كان نتاجه الشقاء والعذاب.
هذا التناول البسيط للموت جاء بعده تناول أكثر عمقا، قدمته الفلسفة منذ ظهورها، فالفيثاغورسية مثلا ترى الموت انعتاق الروح من سجنها وتحررها من الخطايا. على عكس المثالية المتأخرة التي همشت الموت بسبب أنها ترى الذات لا يجب أن تشعر بشخصيتها الكاملة فهي تذوب في الكل، أما الوجودية فقد عنت بالموت بشكل كبير، ففي أحد تياراتها يقدم الموت على أنه بلوغ النفس البشرية النضج والاكتمال.
ورغم كل ذلك تبقى تجربة الموت تجربة خاصة! يعيشها كل إنسان بشكل مختلف رغم تشابه الشكل العام لها! ويظل التفاوت في التعاطي مع مفهومه سائدا، وربما كان عبدالرحمن بدوي أكثر تجليا وهو يفتش في خبايا الموت ليخلص بأنه ليس مشكلة بالنسبة للإنسان الساذج، لكونه يملك شعورا ضعيفا بالشخصية، بينما هو مشكلة حقيقية لمن يؤكدون ذواتهم ويشعرون بها بشكل كبير. وتظل التفسيرات والمخاوف ويظل الموت هو الإشكالية الكبرى التي تواجه البشرية. ويبقى وهم الخلود يداعب خيالها من حين لآخر.
Sm9Sultan@
