هبة زهير قاضي

حفلة تعارف سعودية

الاثنين - 09 سبتمبر 2019

Mon - 09 Sep 2019

خلال بحثي عن مسلسل هادئ أكسر به تسارع الحياة لأسترخي مع أحداثه في إجازة فكرية، وقع في طريقي مسلسل مصري عرض عام 1997 اسمه (زيزينيا). تدور أحداث المسلسل في مدينة الإسكندرية المشهورة بتنوع الجنسيات القاطنة فيها كميناء بحري مهم في أربعينات القرن العشرين.

السياق الأساسي للمسلسل يتحدث عن تصدي المجتمع المصري كبير الرقعة شديد التنوع ما بين صعيد وبندر وجاليات، للاستعمار الإنجليزي وكيفية مقاومتهم له. هذا التغيير الكبير والعامل الدخيل دفعهم للاحتكاك والتعرف ببعضهم، وبالتالي إدراك مدى اختلافاتهم وتنوعهم في العرق والديانة والثقافة والطبقة الاجتماعية، مما أدى إلى ولادة سؤال «هل أنت مصري أصلي؟»، في محاولة للتعرف على التوجهات الفكرية والولاء الوطني لفئات المجتمع المختلفة في مواجهة العدو المشترك.

وقد أجاب المسلسل على السؤال بطريقة ذكية جدا، وفي حبكة مبتكرة أظهرت أنه حين جد الجد واشتدت الأزمة كان الولاء للوطن وللمكتسبات المشتركة من مصالح وتعايش وحضارة ومدنية وثقافة وحقوق وقوانين واحترام للحرية وحفاظ على الكرامة وشعور بالانتماء ونفع وإنتاج، وهو باختصار ما نسميه في يومنا هذا «الهوية الوطنية».

صادف مشاهدتي للمسلسل تلك الحملة المضحكة المبكية على عادة شرب قهوة اللوز وأكل الملوخية في بداية السنة الهجرية عند سكان المنطقة الغربية (مكة، جدة، المدينة)، وفور نشر البعض معلومات عن هذه العادة على مواقع التواصل الاجتماعي اعترضت بعض الأصوات بأن هذه العادة التي عمرها ما يقارب الألف عام (بدعة)، وأنها ليست عادة سعودية أصيلة طالما لا يعرفها الجميع، وغير ذلك من الألفاظ والتكهنات والادعاءات التي لا تليق بالذكر والتفصيل.

وهنا اكتشفت أننا كسعوديين ما زلنا نتعرف على بعضنا، وأننا رغم اتساع رقعتنا الجغرافية التي تساوي دولا عدة، وتنوعنا الذي يساوي جنسيات عدة، إلا أن بعضنا لم يستوعب حجم هذا الاتساع والتنوع إلا مؤخرا.

ففي الحقب الماضية التي مرت علينا كنا منغلقين على دوائرنا الاجتماعية، ومتحفظين جدا في التعامل والمصادقة والزواج من خارجها، وحين دخلنا عصر التواصل الاجتماعي والانفتاح العملي والفكري، وبدأنا نرى بعضنا ونتعرف على أفكارنا وأدركنا كم نحن مختلفون، بدأ البعض يسأل ذلك السؤال الذي طرح في مصر في أربعينات القرن العشرين، والآن يطرح في السعودية في القرن الواحد والعشرين «هل أنت سعودي أصلي؟».

من أجمل ما في بلادنا التنوع المثري، والاختلاف المكمل، والأجمل هو ذلك الوطن الذي احتضن كل تلك التنوعات وشكل منها قطعة فنية بالغة الجمال والثراء والأصالة تحت علم أخضر مرفرف بأقوى ما يجمعنا وأكثر ما يميزنا كنسيج اجتماعي مختلف ومتشابه في الوقت نفسه، وهو شهادة التوحيد. فاعتزازك بذاتك وأصولك لا يعطيك الحق في إلغاء الآخر بحجة الأصل والأحقية الوهمية، فهو بأصوله وعاداته المختلفة ثراء للوطن وله فيه مثل ما لك بالضبط، بحكم الطبيعة المدنية ومفاهيم الدولة الحديثة التي ننتمي إليها جميعا.

وكل من أراد الانتماء إلى المدن كأفراد فاعلين في تطويرها عليه أن يوطن نفسه ويهذبها على تقبل الآخر مهما كان، واحترام الحريات الفردية في التعبير عن المناطقية في حدود الهوية الوطنية، كما له هو حرية التعبير عن ذاته كفرد وأصوله كمجتمع والافتخار بها وإظهارها.

فهلموا بنا نتعرف على بعضنا، هلموا بنا نرمي خلف ظهورنا الخوف من المختلف، والرغبة في الاستحواذ والهوس بنظرية المؤامرة، هلموا بنا نثني على تنوعنا واختلاف موروثاتنا ونضعهما في سياقهما الصحيح كطريق ازدهرت به حضارات سابقة، مورثة دروسا استوعبتها الدول الحديثة وجعلتها تصدر الأنظمة والقوانين لحمايتها.

دعوا عنكم كل هذا الغثاء المصنف كجدل ولنركز على نقاط تشابهنا، فها نحن نأكل السمبوسك في رمضان، ونحتفل بالقرقيعان، ونشرب قهوة اللوز في بداية السنة الجديدة، ونرقص العرضة والخبيتي والتعشير والمزمار في عيدنا الوطني، ونردد مع أولادنا كل صباح (سارعي للمجد والعلياء)، ونستعيذ بالله من الشيطان ونصلي على المصطفى سيد الأنام، ونعمل كثيرا من الصالحات، ونترك ما هو منتن من التنابذات مرضاة لرب العباد.

@HebaKadi