أكلح تفلح..

نرى من بعض المتمردين على الذوق والإتيكيت والبعيدين كل البعد عن اللباقة المجتمعية كثيرا من التصرفات الدخيلة والتوجهات السلوكية المزعجة في التعامل. ويلجأ صاحب الشخصية ذات السمات «الدبقة» إلى إبراز شعار «الكلاحة» ليتعامل بها وينشرها في محيطه البيئي والأسري والعملي والعلمي، وذلك تعزيزا وتبريرا لموقفه الشخصي المزعج للآخرين في انتهاك حرياتهم حتى لا يتم تأنيبه أو توبيخه على تصرفه غير اللائق، ويتعدى في سلوكه غير السوي إلى المجاهدة في ترسيخ منهجه البائد بين جماعته وأسرته وأولاده، ويتذرع في ذلك بأن له الحق في طلب ما يشاء وقتما يرغب كوني أمون عليه وأعرفه، فأصبح بعض من في المجتمع متعارفا على ذلك، وتحول ذلك لعادة أصيلة لديه، ضاربا عرض الحائط بأبجديات الرقي في التعامل السلوكي الاجتماعي ونفسية الشخص المتلقي لأسلوبه المتطفل، ومن تلك الأمثال التي أصبحت واضحة ومتداولة ويسمعها الجميع المثل الشعبي القائل «أكلح تفلح» أي تجرأ في الطلب وسترى العجب، فهذا المثل بسيط في حروفه غثيث في معناه.

وعلى سبيل المثال تجد من يريد منك أن تقدم له خدمة أو أن لك علاقة بشخص يستطيع تلبية طلبه لتنفيذ تلك الخدمة، فيتخطى حدود الأدب في طلبه بأن يتحرى أوقات خروجك من المنزل أو المكتب أو أن ينتظرك في المسجد وينظر إليك نظرة الصائد لفريسته حتى تفرغ من صلاتك ليتحدث معك في موضوعه، بل ويتجاوز ذلك الطلب بكثرة الإلحاح وكثرة السؤال والالتصاق التوأمي مثل العميل لمزود الخدمة حتى يتم إنجازها، ولسان الحال يلفظ أنفاسه الأخيرة ويردد «أبلشتنا في عمرنا».

ومن وجهة نظري السلوكية أجد أن هنالك خمس حريات رئيسة يحتاجها كل شخص منا، الأولى، هي الحرية مع الشخصية وهي «الخلوة مع الذات» والتي يجد فيها الإنسان متسعا من الوقت للجلوس مع ذاته ليسترجع فيها أفكاره وإبداعاته ويرتب أموره الحياتية.

ثانيا الحرية المكانية، وهي بإعطاء المساحة الكافية للتحرك وعدم السماح لتجاوز الآخرين مساحته وحريته الخاصة في محيط دائرته المكانية، مثل الانتظار في الطابور أو الوقوف داخل المصعد الكهربائي.

ثالثا الحرية التأملية، إذ يحتاج الشخص فيها لكثير من الهدوء والاسترخاء والبعد عن الإزعاج، وتعد علاجا ناجعا للتخلص من التوتر ومشاكل الحياة.

رابعا الحرية الأسرية، وهي الخصوصية مع الزوجة والأبناء والمقربين من العائلة، وكثيرا ما يحتاج لها الشخص في نهاية الأسبوع.

خامسا الحرية في الخلوة التعبدية ومناجاة الخالق عز وجل بالدعاء وقراءة القرآن في المسجد أو في مكان خاص.

فهذه الحريات الخمس سالفة الذكر أرى أنها خطوط حمراء يجب احترامها من قبل الآخرين، وقيام بعض الفئات والعينات الطفيلية في المجتمع باختراق هذه الحريات والمساحات بكلاحتهم وسطوتهم وسوء توقيتهم بالاتصالات المتكررة أو الإتيان في أوقات غير لائقة يعتبر من السلوكيات اللا ذوقية وغير المقننة بسياج من الأدب والرقي الخلقي، والقرآن الكريم أورد ذلك في قوله تعالى «يا أيها الذين آمنوا ليستأذنكم الذين ملكت أيمانكم والذين لم يبلغوا الحلم منكم ثلاث مرات من قبل صلاة الفجر وحين تضعون ثيابكم من الظهيرة ومن بعد صلاة العشاء» النور 58، فهذه توجيهات من رب العباد في كيفية التعامل السلوكي مع العباد في المجتمع، وتحري الاستئذان قبل الجرأة وتجاوز الحدود الزمانية والمكانية للآخرين في ثلاثة مواضع، فيجب مراعاة الأوقات المتأخرة من الليل وقبل الفجر لأنها حريات خاصة وأوقات نوم وراحة، وأيضا وقت الظهر لما فيه من تغيير للملابس كناية عن كشف العورة والاسترخاء فترة القيلولة وتناول طعام الغداء، وأيضا بعد صلاة العشاء لما فيه من الهدوء والرغبة في الخلود إلى النوم والخلوة الزوجية.

وكذلك أورد القرآن آية صريحة وواضحة في عدم الإصرار والإلحاح في الطلب للتحدث مع الآخرين أو زيارتهم في بيوتهم لمناقشة أمر ما، وقال سبحانه في محكم تنزيله «إن الذين ينادونك من ورآء الحجرات أكثرهم لا يعقلون ولو أنهم صبروا حتى تخرج إليهم لكان خيرا لهم والله غفور رحيم» الحجرات 4-5، وهذه إشارة إلى وجوب التأدب مع الآخرين وعدم قطع خلواتهم وحرياتهم، بل وأشار القرآن إلى أن من يفعل ذلك هو بعيد كل البعد عن العقلانية والرشد في التصرف، وهناك أيضا تنبيه في آخر الآية باتباع سلوك التأني والصبر وترك المجال للطرف الآخر حتى يتهيأ ويستعد نفسيا وشكليا لاستقبال ما يريده الآخرون سواء كانت خدمة أو شكوى أو طلب.

فعلينا أن نوقف زحف هؤلاء الكالحين والكالحات في مجتمعنا من الاندفاع والمزاجية في التواصل مع الآخرين، ونقول لهم: تعلموا الاستئذان وتحري أنسب الأوقات والأزمان، وعدم تتبع الآخرين في كل مكان، واستبدال المثل بـ «أعقل وأثقل».

@Yos123Omar