الرأي

مستقبل الفصل الدراسي في 2070

عادل آل عقران
لقد شهد التعليم تغيرات زلزالية في السنوات القليلة الماضية، وما فرضته أزمة فيروس كورونا على أنظمة التعليم العالمية من الاستعانة بالتعليم عن بعد كحل للأزمة التي يمر بها العالم، ولا يزال هناك أفراد في عصرنا وعلى قيد الحياة يتذكرون استخدام السبورة السوداء أو الخضراء اللون والطبشورة البيضاء في الفصل، أو الكتابة على الألواح في مكاتبهم، في حين أن طلاب اليوم يمتلكون ثروة احترافية من التكنولوجيا، وفي متناول أيديهم ثورة معرفية، ومع التطور والثورة التكنولوجية والمعرفية بهذه الوتيرة السريعة. ليس من المبالغة أن نتخيل أن عملية التعليم بعد خمسين عاما ستكون مختلفة تماما عن واقعنا الحالي، وأن أنظمة التعليم ومنطلقاته ومراحله وأهدافه، والمدرسة بكافة محتوياتها مهددة بالتغيير الجذري. ماذا يخبئ لنا الصف الدراسي المستقبلي؟

وهل جدرانه الأربعة ستختفي عن الوجود؟

ربما سيصبح الصف الدراسي التقليدي أقل أهمية، وهذا لا يعني أن التعلم نفسه سيصبح أقل أهمية، ولكن ستتغير فكرة تقديم المعلومة المجردة، فالمستقبل للمهارات التعليمية وليس للكم المعرفي المجرد، والحشو الذي لم يعد له فائدة، قالت لي ابنتي ذات يوم: أبي، لماذا نحن اليوم نتعلم ونحفظ الدروس، ونتعب في ذلك وكل شيء متوفر في قوقل بجوالي؟ أجبتها: نتعلم حتى نستفيد من هذه المعلومات كتطبيقات في حياتنا اليومية، وحتى تساعدنا على مواجهة تحديات الحياة. فقالت: ولكن يا أبي، أستطيع أن أعرف أي معلومة أحتاجها وفي أي وقت عن طريق الانترنت.

أدركت حينها أننا بحاجة إلى التغير الجذري في أنماط التعليم وطرائقه ومناهجه وأنظمته بالكامل، ولقد تظاهرنا سنوات بأننا نبذل قصارى جهدنا للأطفال وللشباب ومستقبلهم، ولكننا لم نفعل ذلك حقا، بل فعلنا ما هو مناسب لأنفسنا، إننا حقيقة أمام تحد كبير، وسيحتاج المعلمون وصانعو السياسات إلى الشجاعة للتفكير والتحدي والابتكار لإنشاء مدارس تليق بالأجيال القادمة.

إننا أمام جيل يفكر بطريقة مقلوبة تماما، ومستقبل تعليمنا لأبنائنا مرتهن بتميزه في تهيئة العقل لاستخدام أفضل قدراته، وصقل مواطن إبداعه وابتكاره، وتمكينه من مهارات التحليل والابتكار والإبداع والاختراع، مما يساهم مستقبلا في خلق جيل لديه قدرة عالية على الوعي، وقادر على استخلاص النتائج واكتشافها، وقادر على توظيف ما تعلمه في حياته، مدرك أهمية كل ما يدور حوله، قادر على التكيف مع متغيرات الحياة المتنوعة والمختلفة، ويشعر بالثقة والاستعداد للخروج إلى العالم والقيام بشيء ما.

ونحن نشهد اليوم ونعيش تطورات هائلة في تكنولوجيا التعلم عن بعد، بوجود فصول افتراضية لجميع المراحل التعليمية، مع المنصات التعليمية التقنية، عبر أدوات تكنولوجية متعددة، مثل برنامج المايكروسوفت تايمز، والكلاسيرا، والبلاك بورد وغيرها، مما يعني أنه يمكن لأي شخص حضور الفصل، بغض النظر عن مكان وجوده.

ماذا بعد 50 عاما؟

سيكون المستقبل للذكاء الاصطناعي والتقنية والتكنولوجيا، وسنرى طلابا من جميع أنحاء العالم يحضرون فصولا افتراضية متطورة، تتسم بالاتصال المباشر بين أدمغة البشر والتقنية، ومتنوعة في سمات العالم الافتراضي التعليمي، بينما نجد الطلاب يتفاعل بعضهم مع بعض، وربما تكون المدرسة مقرها في فنلندا، وطلابها من مشارق الأرض ومغاربها، ويمنحون بعد إتمام الدراسة الشهادة التعليمية من النظام التعليمي الفنلندي، وقل الحاجة إلى القوى العاملة الخدمية، ويكون الريبورت هو منجز المهام بكل دقة، إلا أنه لا يمكن الاستغناء أو استبدال المعلم لأهمية دوره التربوي والنفسي والتعليمي.

بل في مرحلة أبعد من ذلك، وهي أن التعليم في العالم سيصبح له نظام واحد، ومراحل ومرتكزات أساسية تتفق عليها جميع الدول للسعي نحو إعداد جيل بشري قادر على مواجهة التحديات العالمية، وبهذا تكون اختلافات القارات والأقاليم في أنظمة التعليم المستقبلي هامشية وبنسبة لا تتجاوز 15%، مما يحقق للبشرية أجمع حرية التعلم في أي مدرسة بالعالم.

كيف ستكون مدارسنا؟استعد للقيام برحلة عبر الزمن مع صديقي هنري من فنلندا، وهو من دولة تتميز بأن لديها أحد أفضل أنظمة التعليم في العالم، ولكن في رحلتنا الافتراضية حقيقة مهمة وهي أن أنظمة التعليم الأكثر فاعلية حاليا ليست دليلا على المستقبل.

إنه عام 2070، نحن نقف أمام ناطحة سحاب، يا إلهي، إنه المكان نفسه الذي غادرنا منه قبل خمسين عاما من خلال آلة الزمن لدينا، لقد عثرنا على مدرسة «SCHOOL» ولنر كيف تبدو الآن، نحن فقط نتابع عددا قليلا من الطلاب الذين يدخلون مباني المدرسة ببطاقة ممغنطة تبدو مشابهة جدا لتلك المستخدمة في شركات تكنولوجيا المعلومات لدينا، تم إيقافنا على الفور من قبل روبوت أمني يمنعنا من الدخول دون بطاقة ممغنطة، لحسن الحظ صديقي هنري يحمل بطاقة هوية صحفية، وبمجرد أن رأى الروبوت بطاقته سمح لنا بالدخول، كانت ممرات المدرسة جذابة وجميلة جدا وأنيقة، وتمتد حيث تخصص مهمة واحدة لكل روبوت، أوقفتنا طالبة مسرعة في الممر، قالت: مرحبا اسمي ريا» ـ من أصول شرقية كما حدثتني بذلك لاحقا، وأنا أنتمي إلى فئة العلوم، هكذا قالت عن نفسها، لقد أثارتني الدهشة فسألتها: وما هي فئة العلوم؟ قالت ببرود: إننا ندرس جميع المواد حتى سن العاشرة، وبعد ذلك يمنح الطلاب الحرية لاختيار موضوعهم المفضل، وبعد ذلك فصل الفصول الدراسية وفقا للموضوعات، ولدينا أيضا خيار تناول الأساسيات من الموضوعات الأخرى، كما يمكنني تعلم الأدب الأساسي بعد ساعات الدوام المدرسي إذا كنت مهتمة.

لقد كانت واضحة على ملامحنا الصدمة الحضارية التي نعيشها. قال لها هنري: هل يمكننا إلقاء نظرة على فصلك؟ سألها ببطء؟ فردت: من المؤكد، وأخذتنا عبر المصعد إلى الطابق الثاني، حيث وضعت بصمات أصابعها ودخلت فصلا دراسيا، وتبعناها بهدوء.

لم يكن الفصل قد بدأ، وكان الأطفال يتجاذبون أطراف الحديث، ولديهم أصدقاء يشاركونهم من دول أخرى عبر منصات افتراضية وصورهم في شاشة الفصل المتنوعة، هنري.. ما هذا الفصل الدراسي؟ لم يكن فيه ذرة من التشابه مع فصولنا، كان على جانب واحد للفصل لوح أبيض؛ احتلت شاشة جهاز للتخيل الثلاثي الأبعاد مكانه في المنتصف، ومكتب المعلم في المنتصف، والمعلم أصبح دوره مرشدا وميسرا لعملية التعلم، والدور الأكبر للتعلم والتفكير على الطالب، لقد كان مكتب المعلم محاطا بطاولات الطلاب على شكل شبه دائرة، وكانت الشاشات عالية التقنية والجودة، تظهر الطلاب الذين يتعلمون عن بعد على جدران الفصل الأخرى، كانت طاولة كل طالب مثيرة للغرابة، فهي ليست مجرد طاولة بها دروج سفلى وسطح أعلى يضع الطالب كتبه عليها، بل طاولة ذكية لها سطح زجاجي ناعم الملمس، يستطيع الطالب تعديل اتجاه سطحها العلوي لتصبح أماه، يستخدمها باللمس، ولها أقلام خاصة للرسم والكتابة، وفيها نظام مدرسي متكامل، تتوفر بالطاولة الذكية المقررات وكراريس الكتابة، ولوحات الرسم، ويستطيع الطالب حفظ جميع ما تعلمه من مهارات والاطلاع عليه من منزله، فلديه مساحة كافية من الخزن السحابي، مخصصة للكتب الدراسية وللواجبات وغيرها.

كما أن نظام الطاولة مرتبط بقسم متابعة الحضور، ويمكن لريبورت المختص تسجيل حضور الطالب للحصة الدراسية، كما يمكن للمرشد التعليمي التواصل مع الطالب وإجراء محادثة عبر برامج المحادثة الخاصة، هذه الطاولة الذكية ليس بها أي درج، بل من جمالها حقا أن الطالب يستطيع الدخول من أيقونة الإفطار الصباحي لتحديد نوع الوجبة التي يرغبها، وسيجد الريبورت المسؤول عن التغذية قد أعدها وهي جاهزة مع بداية وقت الراحة في المكان المخصص في الطابق المخصص لذلك، ومرتبط بها مواعيد بداية الحصص الدراسية ويتغير نظامها تلقائيا، كما أنها مرتبطة مع نظام النقل المدرسي لترسل ليبورت النقل إشارة بانتهاء الدوام، وعليه تجهيز حافلة النقل للطالب، كما يحدد النظام للريبورت وقت الخروج والوقت المتوقع للوصول إلى المنزل.

ولقد كان للصف الدراسي باب زجاجي آخر يفتح على المختبر، عند سؤالنا عنه، أخبرنا الأطفال بأن الفصل الدراسي هو نشاط ومكان عملي أكثر، فهم يتعلمون مفاهيمهم في المنزل من خلال المحاضرات عبر الإنترنت ويأتون إلى الفصل جاهزين للتجارب والأنشطة الفعلية والتفاعلية، ولديهم جلسات مجدولة مع الأفلام الوثائقية باستخدام نظارات المحاكاة للواقع، فيعيشون تجارب متنوعة عبر الواقع الافتراضي حول هذه المفاهيم، ويجربون تجارب مختلفة ذات صلة في المختبرات العلمية عبر معامل افتراضية ثلاثية الأبعاد، يطبقون عليها جميع التجارب العلمية، ويشاهدون التفاعلات العلمية للتجارب ويرصدون المشاهدات عن كل تجربة ينفذونها، كما أن المعامل ثلاثية الأبعاد تشرح لهم المفاهيم المعقدة بسهولة، وبعض المواد يتعلمونها عن طريق اللعب؛ من خلال تطبيقات وألعاب ذات قيمة تعليمية محايدة، كل طالب يستطيع الدخول على موقعه الخاص باللعبة ويشارك التحدي مع جميع الطلاب بجميع المدارس، ويتعلم أفكارا ومهارات جديدة.

لفت نظري في الجهة المقابلة للصف الدراسي باب زجاجي ينفذ إلى مكتبة المدرسة، التي مقرها وسط الدور الذي نحن فيه وتنفذ لها كل الفصول الدراسية الأخرى، وهي عبارة عن مكتبة في وسط حديقة غناء، كأنك تعيش في غابات الأمازون، ويستطيع الطالب أن يأخذ كتابه ويجلس على أرجوحة جميلة يستمتع باللعب مع قراءة الكتاب، كما أنه يُطلب من الطالب عند الانتهاء من اليوم الدراسي إكمال مهام قصيرة المدى بتطبيقها في حياته اليومية مستخدما المهارات التي تعلموها في المدرسة، من أجل تعزيز فهمه وإظهار كيف تعمل هذه المهارات في العالم الخارجي، كما أن الطالب لا يحمل أي شيء من وإلى المنزل، فجميع المواد الدراسية متاحة على الإنترنت ويمكنهم الوصول إليها من منازلهم، لقد اندهشنا من حجرة الدراسة وبدا وكأن الأطفال تائهين في أرض العجائب، لقد حان وقت المغادرة، وساعدتنا الفتاة بعد الاحتفاظ ببصمة إصبعها مرة أخرى.

وأوضحَت أنه بهذا يكون لديهم مسار وعلم بحركة الطلاب، ويجب عليهم الدخول بعد وضع أصابعهم على الجهاز الذي يسجل حركتهم عند الدخول لأي غرفة، سواء كانت مكتبة (كانت تحمل المزيد من الأجهزة الالكترونية التي لم نكن على دراية بها حتى من الكتب)، أو غرفة غسيل، أو فصل دراسي أو في أي مكان لهذا الأمر.

لم أستطع التوقف عن التمني أنا وصديقي هنري لو كان مثل هذا النظام موجودا قبل خمسين عاما، وقد طرحت على الفور السؤال: أليس لديكم ملاعب؟ فابتسمت الفتاة وأجابت: لدينا خمسة طوابق علوية حصريا للألعاب والتمارين الرياضية، وفي أحد طوابقنا مضمار للجري، وآخر به حمام سباحة وملعب كرة سلة، ويتم تعريف الطلاب بجميع الألعاب، ويمكنهم اختيار اللعبة التي تهمهم.

لقد كانت المدرسة مذهلة جدا، أدركت أنا وصديقي حينها أن الوقت قد حان للمغادرة، وقبل وداعها قالت: ما ترونه في هذه المدرسة نحن الطلاب من اقترحه، فهي رغبتنا وتم تحقيقها لنا، كما أن مدرستنا تعمل بالطاقة الشمسية، ونسعى في مختبرنا الافتراضي بالصف الدراسي لاختراعات متنوعة في الطاقة، ونفكر في مدرسة وصف دراسي تحت الماء، ثم اعتذرت للمغادرة، فهي على موعد لحضور اكتشافات فلكية في أحد الفصول الدراسي الافتراضية، تقدمها مدرسة في دولة أخرى شرق الكرة الأرضية، مما يتطلب منها تجهيز النظارات الافتراضية، وإعمال التطبيق ثلاثي الأبعاد لتعيش الاكتشاف والمغامرة.

ودعنا الفتاة التي لعبت دور المرشد، صعدنا إلى آلة الزمن الخاصة بنا للعودة إلى عام 2020، لقد عدنا أكثر سعادة، مقتنعين بأن أحفادنا سيستمتعون بالتعلم بطريقة أفضل بكثير مما فعلنا، وأن المدرسة ستكون للعالم كله قرية صغيرة، والصف الدراسي منزل في تلك القرية قد اختفت جدرانه.

@assd_asiri