التعليم.. إلى أين؟
السبت - 04 يوليو 2020
Sat - 04 Jul 2020
من نافلة القول أن التعليم هو الأساس لبناء نهضة أصيلة، وفي هذا السياق كم سكبنا كلمات وراء كلمات، وكتبنا جُمَلا يتلوها جُمَل، ومع ذلك لا يزال إشكال التعليم قائما لم ينته، ولا أظن الحال قاصرا علينا لوحدنا، بل لعله داء شمل بضُرِّه مختلف أنحاء وطننا العربي للأسف.
منذ أن تأسست أول مديرية للمعارف عام 1924م، التي تحولت إلى وزارة عام 1953م، ومع تغير اسمها من وزارة للمعارف إلى وزارة للتربية والتعليم، وصولا إلى وزارة التعليم التي جمعت بين التعليم العام ووزارة التعليم العالي التي تأسست عام 1975م، والحال لم يتغير بصورة إيجابية، بل تشهدُ المُخرجات بأن جودة ومتانة التعليم قديما أفضل مما هو عليه الآن، سواء على مستوى التعليم العام أو العالي.
وفي هذا الإطار أشير إلى أن التعليم العام مثلث من ثلاثة أضلاع: المعلم، والمنهج، والمبنى، وكل ضلع فيه يحتاج إلى تطوير في المتن والمضمون وليس الشكل والمظهر وحسب، وإذا كان ضلعا المعلم والمنهج قد حظيا باهتمام خلال الفترات السالفة، فإن ضلع المبنى المدرسي لا يزال غائبا عن صانع القرار، وأتصور أنه قد آن الأوان لإيجاد مخطط هندسي لمدارسنا تتوافق سماته من حيث الشكل والمواد والمساحة مع البيئة الصديقة المحفزة للتعليم، التي لا ترتكز على ثقافة الكم وإنما ثقافة الكيف، وتكسر حاجز العزلة بين الطالب ومحيطه البيئي، والتي تُمثل النوافذ المغلقة وغالبا ما يتم تجليدها بشكل عبثي، أحد ملامحها الرئيسة.
كل هذا قد مثل ولا يزال عبئا على مسؤولي التعليم العام المتعاقبين، والأمر لا ينتهي بالتخرج في المرحلة الثانوية، بل أراه صار ممتدا إلى أروقة الجامعات التي بات أغلبها غير محفز لتحقيق غاية التعلم، وصارت أقرب إلى الثانويات العليا بما تقدمه من نهج تلقيني لا جهد فيه ولا ابتكار، وليست العلوم الإنسانية بمنأى عن ذلك أيضا، فما أحوجنا إلى طالب قادر على أن يغوص في أفانين المعرفة بحثا وتأملا واستنطاقا، ليناقش بعد ذلك كل ما وصل إليه مع أستاذه في منحى علمي بهيج، تحقيقا للقاعدة التي تقول: إنما العلم بالتعلم.
على أن سؤالا وجوديا يمكن أن يبرز هنا وهو: ما الغاية من التعلم؟ هل اكتساب المعلومة هو الغاية والهدف؟ أم إن الأمر متعلق بشيء آخر؟
حتما الأمر أكبر من اكتساب معلومة هنا أو هناك، ولم يكن ذلك عَصِيَّا في السابق، فكيف اليوم وقد بات محرك «قوقل»، أو كما يصفه البعض تمُلحا بـ «الشيخ قوقل»، مصدرا لكثير من المعلومات، وصار بإمكان أي أحد قادر على القراءة أن يَعلم ما يشاء، وفي أي وقت يشاء، فهل تحققت الغاية من التعليم بذلك؟ أعود وأقول: حتما لا، فالمراد بالتعلم هنا أكبر مما يُفهم بصورة قاصرة، وقديما قالوا: من كان شيخه كتابه، فقد كثر خطؤه وقل صوابه.
الغاية من التعلم ليس اكتساب معلومة، وإنما بلوغ حدٍّ جيد من معرفة كُنه تلك المعلومة، وقيمة المعرفة هنا لا تتأتى إلا بملازمة شيخ، أستاذ، عالم، أيا كان لقبه، إذ من خلاله يتعلم الطالب قواعد سلوكية، ويدرك آفاقا تأملية، ويستوعب منهج صناعة السؤال المعرفي، وهو ما سيحقق مفهوم «عَلِم» وصولا إلى الغاية الكبرى وهو مفهوم «عَرَف»، وحتما فالفرق كبير بينهما لمن يدرك ويتأمل.
أسوق كل ذلك اليوم وأنا أستشعر مرارة الألم في ذهني من فكرة تعميم «التعليم عن بعد»، التي بات يُروَّج لها اليوم جراء تنفيذها بسبب قواعد المنع التي فرضت مع جائحة كورونا، وأسأل معالي وزير التعليم وزملاءه الكرام: هل حققنا الغاية من التعليم وفق مفهوم «عَلِمَ وعَرَفَ» في المراحل السالفة؟ وفي ظل أزمتنا المنهجية مع التعليم بشكل عام على صعيد الوطن بأكمله، هل سنخوض غمار تجربة أخرى تعتمد الغيبية منهجا، ونحن لم نجهز طالبا مسؤولا أولا؟
إنما العلم بالتعلم، والمعرفة بالتتلمذ المباشر بين يدي أستاذ، وكما أن التربية الصالحة لا تكون قائمة على أصولها إلا بالممارسة الحية والمباشرة بين أبوين صالحين وأسرة واعية، فكذلك التعليم لا يستقيم أمره إلا بمباشرة معلم وأستاذ مباشر تستشعره ويستشعرك، وليس روبوتا آليا يقتل ما بقي فينا من إدراك ومشاعر. والله المستعان.
zash113@
منذ أن تأسست أول مديرية للمعارف عام 1924م، التي تحولت إلى وزارة عام 1953م، ومع تغير اسمها من وزارة للمعارف إلى وزارة للتربية والتعليم، وصولا إلى وزارة التعليم التي جمعت بين التعليم العام ووزارة التعليم العالي التي تأسست عام 1975م، والحال لم يتغير بصورة إيجابية، بل تشهدُ المُخرجات بأن جودة ومتانة التعليم قديما أفضل مما هو عليه الآن، سواء على مستوى التعليم العام أو العالي.
وفي هذا الإطار أشير إلى أن التعليم العام مثلث من ثلاثة أضلاع: المعلم، والمنهج، والمبنى، وكل ضلع فيه يحتاج إلى تطوير في المتن والمضمون وليس الشكل والمظهر وحسب، وإذا كان ضلعا المعلم والمنهج قد حظيا باهتمام خلال الفترات السالفة، فإن ضلع المبنى المدرسي لا يزال غائبا عن صانع القرار، وأتصور أنه قد آن الأوان لإيجاد مخطط هندسي لمدارسنا تتوافق سماته من حيث الشكل والمواد والمساحة مع البيئة الصديقة المحفزة للتعليم، التي لا ترتكز على ثقافة الكم وإنما ثقافة الكيف، وتكسر حاجز العزلة بين الطالب ومحيطه البيئي، والتي تُمثل النوافذ المغلقة وغالبا ما يتم تجليدها بشكل عبثي، أحد ملامحها الرئيسة.
كل هذا قد مثل ولا يزال عبئا على مسؤولي التعليم العام المتعاقبين، والأمر لا ينتهي بالتخرج في المرحلة الثانوية، بل أراه صار ممتدا إلى أروقة الجامعات التي بات أغلبها غير محفز لتحقيق غاية التعلم، وصارت أقرب إلى الثانويات العليا بما تقدمه من نهج تلقيني لا جهد فيه ولا ابتكار، وليست العلوم الإنسانية بمنأى عن ذلك أيضا، فما أحوجنا إلى طالب قادر على أن يغوص في أفانين المعرفة بحثا وتأملا واستنطاقا، ليناقش بعد ذلك كل ما وصل إليه مع أستاذه في منحى علمي بهيج، تحقيقا للقاعدة التي تقول: إنما العلم بالتعلم.
على أن سؤالا وجوديا يمكن أن يبرز هنا وهو: ما الغاية من التعلم؟ هل اكتساب المعلومة هو الغاية والهدف؟ أم إن الأمر متعلق بشيء آخر؟
حتما الأمر أكبر من اكتساب معلومة هنا أو هناك، ولم يكن ذلك عَصِيَّا في السابق، فكيف اليوم وقد بات محرك «قوقل»، أو كما يصفه البعض تمُلحا بـ «الشيخ قوقل»، مصدرا لكثير من المعلومات، وصار بإمكان أي أحد قادر على القراءة أن يَعلم ما يشاء، وفي أي وقت يشاء، فهل تحققت الغاية من التعليم بذلك؟ أعود وأقول: حتما لا، فالمراد بالتعلم هنا أكبر مما يُفهم بصورة قاصرة، وقديما قالوا: من كان شيخه كتابه، فقد كثر خطؤه وقل صوابه.
الغاية من التعلم ليس اكتساب معلومة، وإنما بلوغ حدٍّ جيد من معرفة كُنه تلك المعلومة، وقيمة المعرفة هنا لا تتأتى إلا بملازمة شيخ، أستاذ، عالم، أيا كان لقبه، إذ من خلاله يتعلم الطالب قواعد سلوكية، ويدرك آفاقا تأملية، ويستوعب منهج صناعة السؤال المعرفي، وهو ما سيحقق مفهوم «عَلِم» وصولا إلى الغاية الكبرى وهو مفهوم «عَرَف»، وحتما فالفرق كبير بينهما لمن يدرك ويتأمل.
أسوق كل ذلك اليوم وأنا أستشعر مرارة الألم في ذهني من فكرة تعميم «التعليم عن بعد»، التي بات يُروَّج لها اليوم جراء تنفيذها بسبب قواعد المنع التي فرضت مع جائحة كورونا، وأسأل معالي وزير التعليم وزملاءه الكرام: هل حققنا الغاية من التعليم وفق مفهوم «عَلِمَ وعَرَفَ» في المراحل السالفة؟ وفي ظل أزمتنا المنهجية مع التعليم بشكل عام على صعيد الوطن بأكمله، هل سنخوض غمار تجربة أخرى تعتمد الغيبية منهجا، ونحن لم نجهز طالبا مسؤولا أولا؟
إنما العلم بالتعلم، والمعرفة بالتتلمذ المباشر بين يدي أستاذ، وكما أن التربية الصالحة لا تكون قائمة على أصولها إلا بالممارسة الحية والمباشرة بين أبوين صالحين وأسرة واعية، فكذلك التعليم لا يستقيم أمره إلا بمباشرة معلم وأستاذ مباشر تستشعره ويستشعرك، وليس روبوتا آليا يقتل ما بقي فينا من إدراك ومشاعر. والله المستعان.
zash113@