الرأي

ليبيا.. من الفوضى إلى الترتيب

علي المطوع
الفوضى يعقبها الترتيب وفق القوانين وسنن التاريخ ووفق ما يريده النافذون وخططهم المسبقة وأطرهم الزمنية للهدم أولا ثم البناء.

وفي ليبيا ما زالت الفوضى تسود المشهد هناك منذ سقوط نظام معمر القذافي عام 2011، بعد تدخل الناتو وبغطاء فكري من مفكرين استرخصوا الدم الليبي وقبله العربي، ليصبح هذا الدم مهدرا مسبق الفداء والمثوبة، بغطاء من رؤية موجهة، راعت الزمان والمكان وطبيعة المرحلة وما تقتضيه من استثناءات وتنازلات وتجاوزات، وشرعية حقوقية إنسانية معلبة، تدعي حفظ ما تبقى من دماء الليبيين التي ما تزال تسفك وتستباح منذ ذلك الحين.

في الأول من سبتمبر عام 1969 دشن القذافي فتحه المجيد، تلك الثورة المزعومة التي جاءت على خطى ونهج ضباط مصر الأحرار، فأزال الملكية وآخر ملوكها السنوسي الذي كان وللمفارقة في تركيا في رحلة علاجية!

القذافي - ظاهريا - أعاد ترتيب المشهد الليبي في حينه وجعله مشهدا ثوريا متناقضا من خلال نظريته العالمية الثالثة التي بشر بها في كتابه الأخضر الذائع الصيت، وتفرد في ليبيا بمجموعة من القرارات والأحداث التي جعلت منه زعيما غريب الأطوار، ناكف الغرب وأمريكا على وجه الخصوص وفجر الطائرات وتوترت علاقاته بالجميع ليكون الاستثناء في زمن كان يسوده التجانس والانسجام.

السؤال الجوهري: هل كان القذافي في ذلك الزمن صانع فوضى أم جزءا منها، أم كان هو الترتيب الذي أعقب كل ذلك؟

اجتاح الربيع العربي ليبيا وما زال للقذافي في ذاكرة الحشود والجماهير عبارتان خالدتان خلال ثوراته، الأولى عندما قال مخاطبا الثوار: (من أنتم؟)، والثانية (هذه آخرة الماء والملح يا قطر)، وبعدها أزيح الستار عن حقبة القذافي المريرة من تاريخ ليبيا لتستقبل الحقبة الأسوأ والأشد مرارة وعنفا.

اليوم إردوغان بتدخله في ليبيا يجيب عن ذلك السؤال، وهذه الإجابة تطرح العديد من التساؤلات الجديدة: كيف تجرأت تركيا على التدخل في هذا البلد العربي تحت سمع وبصر دول أوروبا وأمريكا؟ خاصة أن روسيا تريد أن تتموضع خلسة في ليبيا وبغطاء تركي، سواء كان اتفاقا مسبقا أو واقع سيتفق عليه تفرضه أدنى درجات المصلحة، وكأن الأمر يسير في اتجاه شراكة قادمة بين عدوين تاريخيين متناقضين، جمعتهما ليبيا كجائزة كبرى وليدشنا بينهما تحالفا استراتيجيا يعكس مستوى غير مسبوق من التفاهم والتآمر.

ولعل من أهم الأسئلة في هذه المرحلة أيضا: كيف تسمح دول أوروبا وأمريكا للروس والأتراك بالتوغل والتغول في هذا الجزء الذي كان من مناطق النفوذ الأوروبية تاريخيا وجغرافيا؟!

تركيا لديها شعور مفرط بالقوة والثقة والغرور جعلها تتمدد إلى ليبيا، القوة قوة الأرقام التي تجعلها فاعلة غالبة في بلدان ضعيفة كسوريا وليبيا ومحيطهما العربي الأضعف، وثقة بالغة أن الغرب لن يحرك ساكنا ولن يسكن متحركا، خاصة في هذه المرحلة المريبة غير واضحة المعالم، والتي يبدو أنها نهاية الفوضى وبداية الترتيب، الذي تراقبه وترصده دول البر الأوروبي المطلة على البحر الأبيض المتوسط وغيرها من دول القارة الهرمة! أما الغرور فهو سجية المحتل وما يصاحب حضوره من بغي وظلم وعدوان.

أخيرا وبعد عشر سنوات على انطلاق ثورات الربيع العربي، يثبت توالي الأحداث وتسارعها أن القذافي ما زال الغائب الأبرز عن الساحة الليبية والعربية، ورغم ذلك ما زال الزعيم الأكثر حضورا وتناقضا، فتسجيلاته المنشورة توثق تاريخا مفصليا وحرجا في المنطقة العربية، وضبطه لهذه التسجيلات يؤكد استكمال حضوره المسرحي والمثير الذي كان يمارسه في المؤتمرات العربية والمناسبات الأفريقية والأممية، فكل يوم نفاجأ بمادة وثائقية جديدة له مع أحد ضيوفه في خيمته العربية، ليذكرنا بالعيش والملح الذي كان بينه وبينهم، وليؤكد للتاريخ وللمؤرخين، أنه كان في حياته السياسي العربي الأكثر جدلا، وأنه بعد مماته يظل أفضل من أخرج جلسات التآمر وأرشف مسلسلات الغدر وحفظ للأجيال القادمة العيش والماء والملح.