عبدالله العولقي

الأيديولوجيا بين الثقافة والوطن

الثلاثاء - 10 أبريل 2018

Tue - 10 Apr 2018

استوردت الثقافة العربية مصطلح الأيديولوجيا ضمن صفقة مصطلحات أجنبية مع الثقافة الغربية بعد أن اختلف أرباب اللغة وأساطينها في إيجاد مصطلح عربي يقابله في ذخائر المعاجم بذات المفهوم والشمولية، وهذا ليس عجزا في سمو اللغة بقدر ما هو تقصير من الناطقين بها والمهتمين بشؤونها، ولكن المتفق عليه بين الشرق والغرب أن بنود الأيديولوجيا هي من تقيد أفكار الكاتب أو المبدع عموما فتجعله رهين محبسها الخانق حتى لا يقتدر الخروج عما سطره الآباء المنظرون لأبجدياتها الوضعية، فيظل الكاتب مؤطر الفكر ومؤدلج الذهنية بعيدا عن أجواء الحرية وفضاءات الانفتاح على الآخر، وعلى الرغم من شهرة البعض من هؤلاء المؤدلجين إلا أن مسمى أدلجتهم ظل سمة ملاصقة لهم تلازمهم بمعنى النقص في ثقافتهم وفكرهم.

مأساة الأيديولوجيا أنها لا تعبر عن حقيقة الواقع المجتمعي للبشر وظروفهم بقدر ما تكون أبجدياتها عبارة عن تصورات فردية ضيقة تخضع للتجربة الشخصية لمنظريها، فهي غير واقعية لأنها تعجز – كما يقول كارل بوبر – عن إيجاد معادلة طبيعية للعيش الإنساني، فهي متناقضة مع طبيعة وغريزة البشر، ولا شك أننا ابتلينا في أمتنا الإسلامية خلال فترة القرن العشرين بأيديولوجيات بائسة عطلت بوادر مشاريع النهضة والتنمية لدى أغلب الدول الإسلامية، ومن ثم انعكس عطلها وبؤسها وقيود أطرها على مفكريها وكتابها ومبدعيها.

لعل التاريخ العالمي يسعفنا بالأدب الروسي وثقافته المتألقة إبداعا ورواجا ووطنية قبل الثورة البلشفية التي تفرخت عن الأيديولوجيا الماركسية والشيوعية، فبعد أن كانت بلاد الروس تفتخر على أوروبا بتولستوي وألكسندر بوشكين ودوستويفسكي وتشيخوف ومكسيم غوركي وإيفان تورجينيف جاءت قيود الأيديولوجيا لتوقف مدد الإبداع وتقيده بإطارها الصغير، وقد يدافع بعض المؤرخين والمثقفين المهتمين بالشأن الاجتماعي والسياسي للشعوب عن نمط الأيديولوجية بأنها ضرورة حتمية متعلقة بالفرد والمجتمع، ولا بد للكاتب من أن يكون مؤدلجا حتى ينطلق يراعه بالكتابة حسب الأفكار المؤطرة لفكره، ورغم تحفظي الشديد على هذا الرأي إلا أن فرضه جدلا ومثلا يجعلنا نؤمن بطرح فكرة أيديولوجيا الوطن كإطار فكري أكبر يتسع للجميع، فهو أشمل وأعم من كل الأطر الأخرى بأطيافها وتعدداتها، ومن هنا تبقى بقية الأطر تتحرك داخليا ضمن إطار الوطن كميول وأهواء وقناعات وأفكار ولكنها لا تتجاوز حدود الإطار الأكبر.

في رأيي الشخصي أن الكاتب يجب أن يكون وطنه هو أيديولوجيته المؤطرة لقضايا قلمه الذي تنبثق منه بدائع أفكاره وسوانح خواطره، وهنا يجد لخياله الشخصي فضاءات واسعة يسيح فيها، بل والأعظم من هذا أنه يسجل اسمه ويراعه في سجلات الخالدين، فمن خلال تتبعي لسير عظماء وجهابذة الكتاب حول العالم وجدتهم ممن فاض الوطن عشقا في كلماتهم وعبيرا في أخيلتهم، على عكس المؤطرين فكريا، حيث قتلت الأيديولوجيا بواكير موهبة الإبداع في أنفسهم وتبخرت هباء وغابت عدما مع أدراج الرياح، ولعل منظر الإخوان سيد قطب أحد هؤلاء، فعلى الرغم من موهبته البلاغية العالية وقدراته الفخمة في الكتابة إلا أن أدلجته الإخوانية أبقته قرينا لمعنى التكفير والإرهاب وحرمته من مزايا الوطنية والإنسانية.

وأخيرا لا بد لي أن أعترف أن فكرة المقال واتتني بعد أن تم اعتماد كتاب حياة في الإدارة لموهبة الإبداع والقيادة الإدارية الدكتور غازي القصيبي رحمه الله كمقرر لطلبة الثانوية العامة، فتذكرت سيرته ذات السبعة عقود التي غلبت عليها النزعة الوطنية على أي نزعة أخرى في مكونه الثقافي والإبداعي، رغم تعدد مزاياه ومهاراته في الإدارة والشعر والثقافة والسياسة، مما سمح له بوطنيته الفياضة أن يعتلي سماء المجد والشهرة وخلود الشخصية، بينما نجد القادحين به ومهاجميه حينها في مساجلاته الأدبية معهم ومعاركه الثقافية والفكرية وعلى اختلاف انتماءاتهم قد تلاشوا في غياهب النسيان، لأن حججهم المؤطرة بقيود الأيديولوجيا قد عفا عليها وعليهم غبار الزمن، بينما بقي القصيبي شامخا وخالدا بوطنيته الصادقة لأنها أيديولوجيته التي تعكس بهاء ثقافته وأدبه.