التوجد.. بين الحالة والحاجة

الأربعاء - 28 فبراير 2018

Wed - 28 Feb 2018

قد يعتقد القارئ الكريم من عنوان المقال أني أتحدث عن حالة من الشوق والوله، وأسرد موقفا رومانسيا شد انتباهي، أو أني أنظم منثورا من الكلام الغزلي لأهيم بمحبوبتي حد الجنون، وأكون لليلى قيسها المزيون. فعلا قد يتسبب التوجد بحالة تعتري الفرد، ولا يكاد يبوح بها وتؤثر على حياته الاجتماعية وتجبره على العزلة وتستمر معه، فهذه الحالة التوجدية إن جاز التعبير كما أحببت أن أطلق عليها، وأن أزيد نقطة مقصودة ومتعمدة بحرف الحاء وتغييرها من كلمة «التوحد» إلى «التوجد»، كنوع من الفأل الحسن وطرد اليأس، ليسمعها ممن قدر الله على أحد أبنائه، ويستشعر أن لديهم ما يتوجدون به ويعبرون عنه بطريقتهم الخاصة التي لا نفهمها ولا نعي مقصودهم منها، ويتقوقعون في عالمهم الخاص ويتوحدون معه. وأكون أكثر صدقا حين أتحدث عما يخالجني من شعور تجاههم، وأحببت أن أصول وأجول في أفكارهم، وأتلمس ما يشعرون به هم والمقربون ممن حولهم من الآباء والأمهات والأخصائيين بمراكز التأهيل، وأحاول أن أكسر جدار صمتهم الصارخ ووحدتهم الصاخبة، وأطرح ما في خاطري وخواطر ذويهم في هذه السطور البسيطة لتصل إلى مجتمعي من أصحاب القرار للنظر والالتفات إليهم.

قبل أكثر من عقد من الزمن أجريت بحثا تطبيقيا لتقديمه لمشرفي بقسم علم النفس حين لفت انتباهي وجود بعض الأطفال ينفردون بأنفسهم ويكررون حركاتهم ولا يتحدثون غالبا، ويمتلك البعض منهم قدرة فائقة على فك الرموز وتركيب المجسمات وفهم المختلطات من الألعاب، وهم لا يتجاوزون العاشرة من أعمارهم، منهم الأذكياء جدا ويتمتعون بجمال الخلقة والخلق والروح الطيبة، ويمتلكون حس الدعابة والبراءة، قريبون من قلوبنا، بعيدون عن أفكارنا، هم من قدر الله عليهم، وتم تشخيصهم باضطراب «التوحد»، كما يطلق عليه المصطلح العلمي.

بحسب الرأي الطبي تظهر علامات التوحد في السنة الثانية تقريبا لعمر الطفل، وتبدأ عليه بوادر الانعزال وفقد التواصل اللغوي والبصري وعلو الهمهمات والأنين الصوتي المرتفع تارة والمنخفض، والسلوكيات الخاصة مثل فرط الحركة وتكرارها، وتكون عنيفة أو خفيفة بحسب الطيف التوحدي المصاحب للطفل، وأحيانا يصاب باختلال الشهية والأكل.

ويقدر عدد المصابين باضطراب التوحد في المملكة بـ 500 ألف حالة بحسب إحصائية وزارة الصحة السعودية، وفي العالم بـ 67 مليون حالة بحسب إحصائية منظمة الصحة العالمية، وهي في تزايد واطراد، وغالبا ما يتم التشخيص المتأخر للطفل بسبب عدم وعي الأسرة بالحالة، أو سوء التشخيص الطبي، وهناك من يستجيب للعلاج بحسب نوع الاضطراب ودرجته والتأهيل والتدريب الذي يمر به الطفل.

ونحن نقترب من اليوم العالمي للتوحد والذي ينطلق في الثاني من شهر أبريل من كل عام بحثا عن الجديد والمفيد، وأترك لنفسي المجال لأتحدث عن معاناة الأسر التي تطالب بالإكثار من مراكز التوحد المحترفة داخل المملكة لاحتواء التزايد في الحالات، ومد يد العون إليهم والحد من إرسالهم لمراكز التأهيل خارج المملكة، وتسليط الضوء أكثر على ما تتكبده الأسر من صعوبة التعامل مع المتوحدين من أبنائهم، وتكلفة الانتقال خارج المملكة لمن هم على رأس العمل أو مرتبطون بأعمال حكومية أو خاصة من أولياء الأمور طلبا للعلاج والتأهيل، حيث يتطلب ذلك مبالغ باهظة ومرهقة لمتوسطي الدخل.

وأوجه رسالة تحفيزية لمجتمعي المتكاتف بأن ذوي المتوحدين يأملون بدمج أطفالهم أكثر في التعليم والمجتمع، وحث الأخصائيين على التطوع والاحتواء لمساعدتهم، ويحتاجون إلى الدعم الحكومي المستمر، ووقفة رجال الأعمال السخية باستحداث «صندوق التوحد السعودي الخيري»، لمتابعة علاجهم وتأهيلهم. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضا»، فمن المصابين باضطراب التوحد من اخترعوا وبرزوا في مجال العلوم والفن والأدب أمثال «أديسون» مخترع المصباح، و»بيتهوفين» مؤلف موسيقي، و»ستيفن واتشر» رسام بريطاني، و»بيل غيتس» مؤسس مايكروسوفت، والدكتورة اليمنية «مناهل ثابت» متخصصة في الاقتصاد المعرفي، والطالب «أحمد المكينزي» أول طالب سعودي متوحد يدخل الجامعة.

هم بحق يشعرون بحالة التوجد الإبداعية في عالمهم الخاص، ويحتاجون للرعاية والاهتمام ليبدعوا بأعمالهم في عالمنا العام.

Yos123Omar@