شيخة الغيد

الجمعة - 19 يناير 2018

Fri - 19 Jan 2018

عشرة أعوام أو تزيد انقضت على رحيلها، ولأن الموت حينها حضر دون استئذان، وأتى مبكرا ومفاجئا لنا، وبقدر ما كان رحيلها قاسيا وخسارة كبيرة لذويها والمقربين منها، فإن غزارة حضورها في حياتها جعلت منها امرأة عصية على الغياب.

الشيخة التي رأت النور في صحراء الشير أقصى شمال الوطن، هي سليلة أمراء وفرسان القبيلة وترعرعت في (البيت المخومس) وفي كنف نساء عظيمات، اكتسبت وتعلمت منهن الطباع والخصال الحميدة، حدث ذلك مع بداية التحولات الاجتماعية والسياسية للمنطقة وللقبيلة، وفي الزمن الذي قاوم فيه أبناء الصحراء مظاهر الحياة المدنية، وقبل أن يسدل الستار على حقبة زمنية امتدت لمئات السنين.

وفي الوقت الذي كانت فيه التحولات سريعة ومربكة، انتقلت مع والدها إلى (المخومس الجديد) فوجدت نفسها سيدة البيت في سن مبكر لم يتجاوز الخامسة عشرة. ولأن الضيوف (والطرقية) والعابرين لا يغيبون أبدا عن مضيف والدها ذائع الصيت، فقد كانت دوما على أهبة الاستعداد، حيث تستيقظ قبل الفجر وتقوم بإعداد وتجهيز الطعام طوال اليوم وحتى ساعة متأخرة من الليل وبمساعدة بعض النسوة، تفعل ذلك بكثير من الفرح والشعور بالفخر لمكانة والدها لدى الرجال العابرين، كما أنها تحسن استقبال النساء وترحب بهن بترحيبتها الخاصة والمثيرة للإعجاب، وتفسح لهن المكان الوثير في بيتها وتحرص على التعرف عليهن وتنصت جيدا لأخبارهن وحكاياتهن.

بهذا الدور الذي لعبته الشيخة وفي سن مبكر، نما في داخلها حب البذل والعطاء واستمر معها ولم يتبدل، حتى بعد التغيرات التي طرأت على الحالة الاجتماعية للقبيلة وعليها هي بعد زواجها، ومن ثم انتقالها لبيت زوجها الذي استوطن مدينة رفحاء بعد أن تدفق النفط وتم نقله عبر خط الأنابيب (التابلاين) الذي يربط بين المنطقة الشرقية وميناء صيدا في لبنان مرورا بمناطق الحدود الشمالية والذي أنشئت على جانبيه العديد من المدن والهجر تباعا لتوطين البادية.

ولأن الشيخة لم تبرح البادية ولم تغادر بيت الشعر قط، رغم سكنها (القصور) فقد حولت دارها لما يشبه بيوت الشعر، فالأبواب الخارجية (مشرعة) وأصبح قسم النساء أشبه بالفندق للعديد من النساء اللواتي يراجعن المستشفى أو أنهن مرافقات لرجالهن، كانت تجود بما يتيسر من الطعام لضيوفها، وأصبحت دارها مضيفا ومقرا شبه دائم لكبار السن ولمن تقطعت بهن السبل، ولا تتردد لحظة لطلب المال من أهلها وأقاربها لتمنحه لمستحقيه.

في تلك الفترة كانت المسافة بين الشيخة والكثير من أقرانها كبيرة جدا، وبالرغم من ذلك فقد حظيت بحب وتقدير الجميع، لم تعمل يوما على إحراجهن بهذا الطيب، بل كانت مثار إعجاب العديد منهن، اللواتي حاولن اللحاق بركبها.

الشيخة ورغم غيابها الطويل فهي اليوم أكثر حضورا من الأمس، البذل والعطاء، والعمل الذي كانت تنجزه دون كلل أو ملل، ونالت على أثره الثناء من الداني والقاصي، يستحق أن نستذكره ونستعيده، ولأننا قوم لا نحسن جيدا التعلم من ثقافتنا ومن ماضينا الذي ما زلنا نتناقله شفهيا، فقد رأيت أن أسرد عليكم هذه السيرة التي ما زالت حية وملهمة لكثير من أهلنا في الشمال، في الوقت الذي لا يساورني أدنى شك أنه يوجد العديد من النساء بين القبائل والمناطق الأخرى اللواتي ذاع صيتهن بالبذل والعطاء والطيب في الزمن الباهي وربما أننا الآن بحاجة للتذكير بهن وبمناقبهن ومدى حاجتنا لأمثالهن في هذا العصر ربما أكثر من أي وقت مضى.

@temyatt