الموعظة وبناء الشخصية

الأربعاء - 17 يناير 2018

Wed - 17 Jan 2018

أتأمل كثيرا في وصايا لقمان الحكيم في رأيه والبسيط في معيشته، وكيف أن هذا العبد الصالح المتواضع الذي كرمه الله عز وجل بذكر حواره التربوي العظيم في كتابه العزيز ليظل شاهدا على وصاياه الأبوية إلى قيام الساعة، وأيضا اعتبار الموعظة الحسنة طريقته التي تدرج بها في رسم شخصية ابنه، حيث ابتدأ بمعيارين رئيسين، الأول المواعظ الدينية التي تقرب العبد من الله عز وجل، والثاني المواعظ الدنيوية التي تقرب العبد من عباد الله. أتحدث هنا من منظور سلوكي ونفسي، حيث تعتبر نصائح لقمان وقائية وعلاجية في نفس الوقت لتقويم الشخصية وتعديل مسار انحرافها واعوجاجها، فشخصية الأب المثالية والمتزنة أقدر على مشاركة الابن ومساعدته في تقمص رمز الوالدية فترة التنشئة والتربية الأسرية، وينطبق ذلك بلا شك على دور الأم في بث الحنان على أبنائها وتربيتها لهم بالحب والعطف، ولكن أتحدث هنا تحديدا عن الأب باحتوائه وتوجيهه لابنه وكيف يتم تجهيزه نفسيا ومجتمعيا لمواجهة الحياة بمصاعبها ومتاعبها وكبدها؛ فالذكاء المجتمعي وتحديدا الأسري يبدأ بالنصيحة العقلانية والهدوء والمسايرة وتقدير المرحلة العمرية للابن، وليس بالإهانة والشتم والضرب والإلزام والجبر.

فالموعظة إذا جاءت من أقرب الناس مثل الأب كان لها الأثر البالغ والعميق في النفس كونها صادقة ونابعة من قلب محب يريد أن يرى ابنه أحسن البشر وأفضل الأبناء، وينقل إليه عصارة ما واجهه في حياته التي عاشها ومر بها بطريقة تمتزج بالعطف والحزم والخوف الأبوي على الابن، حتى يتقبل هذه الخبرة والنصيحة بصدر رحب وعقل فطن وأسلوب لبق.

قال عن لقمان الحكيم سيد البشر وأفضل الخلق صلى الله عليه وسلم فيما روى عنه ابن عمر «لم يكن لقمان نبيا ولكن كان عبدا كثير التفكر، حسن الظن، كثير الصمت، أحب الله فأحبه الله، فمن عليه بالحكمة».

فمواعظ لقمان الحكيم رسالة لكل أب ولكل أم عن كيفية بناء الشخصية السليمة للأبناء أولا عن طريق النصح بالكلام اللين والعبارات الراقية، وثانيا بالأسلوب العملي في الحياة وما يطلق عليه كمصطلح نفسي «النمذجة الوالدية»، حيث بدأ بوصية فلذة كبده وحذره من الشرك بالله، ووجوب تفريد العبادة للواحد القهار، فهي أولى علامات ومؤشرات الفلاح والصلاح للعبد، واليقين التام بأن كل شيء في هذه الدنيا بتقدير العزيز القدير ولله عز وجل حسن التدبير، ثم جاءت الوصية الثانية ببر الوالدين والتقرب لهما والإحسان إليهما والتعامل معهما بالمعروف والخضوع عند حضرتهما وإبداء كل ما يسرهما والبعد عن كل ما يزعجهما من قول أو عمل.

ثم ركز على الوصية الثالثة وهي مخافة الله في القول والعمل والسر والعلن، وأنه عز وجل مطلع على كل ما في نفس الإنسان، ومن ثم نصحه بإقامة الصلاة والمداومة عليها فهي السر الخفي لسعادة الإنسان وصلاحه في الدنيا والآخرة، والتربية الخامسة هي الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فالمعروف هو التهذب في اللفظ واللباقة في الفعل وهذا أسلوب تربوي راق للتعامل مع الناس. وجاء الوعظ بالنصيحة السادسة وهي الصبر على الشدائد والمصائب لأنه من الطبيعي أن يمر الإنسان بأوقات ضيق وعسر يتصبر ويصبر عليها، وهي عملية ترويض للنفس على مكاره الحياة للنجاة من العلل النفسية، ثم جاء لأعظم لفتة تربوية وموعظة في فن التعامل مع البشر وهي التواضع وعدم التكبر والغطرسة والاختيال في حضرة الناس، بل القصد والهدوء والتؤدة في المشي، لأنها تعتبر مهلكة الإنسان بلا شك وسلوكا يبغضه الله وخلقه، ثم اختتم لقمان موعظته بما أسميه «إتيكيت التعامل المجتمعي» وهو خفض الصوت في الكلام وهو أسلوب سلوكي عميق يقع في نفس القائل والمتلقي في آن واحد، حيث يعمل رفع الصوت على استثارة أعضاء الإنسان مما يجعله متحمسا لأي لحظة هجومية قد تحين مع الطرف الآخر، إضافة إلى وطأة الصوت العالي على مسمع الآخرين، حيث يعتبر من الملوثات البيئية والمستفزات السلوكية، وشبه رفع الصوت في التحدث بأنكر الأصوات، وهو صوت الحمير «أجلكم الله» تنفيرا من هذا الفعل المشين.

نحن نحتاج في مجتمعاتنا إلى كثير من الآباء مثل نهج وأسلوب لقمان الحكيم في نصائحه وتوجيهاته وطرق تربيته، ونحتاج أيضا إلى كثير من المواعظ الوالدية العميقة لبناء وتأسيس أبنائنا وشخصياتهم.

Yos123Omar@