مرزوق تنباك

التجديد الذاتي لعمر الدولة

الثلاثاء - 02 يناير 2018

Tue - 02 Jan 2018

التطور الطبيعي للدول والتحولات التي تمر عليها في تاريخها كانت موضوع دراسات ومساجلات في الثقافات القديمة، ولعل أشهرها في تاريخ العرب كان رأي ابن خلدون الذي يرى أن عمر الدولة بمقدار عمر الإنسان، طفولة وشباب ثم الكهولة والهرم، ويبني رأيه هذا على أن عمر الدولة الطبيعي هو مئة عام، وبعد ذلك لا بد أن يحصل لها ركود وانحدار إلا إذا أتيح لها تجديد وتطوير من داخلها أو من خارج إطارها.

ولم يكن ابن خلدون هو أول من قال بحاجة الدولة إلى التطور في آليات عملها وتجديد نشاطها لتعود لها قوة البداية التي بدأت بها، لكن حتى في تراثنا القديم نجد الأثر المشهور: إن الله يبعث على رأس كل مئة عام من يجدد لهذه الأمة أمر دينها، والأمة المقصودة هنا هي الدولة بالمعنى المعاصر، حيث لم يكن مصطلح الدولة معروفا، وإنما المعروف هو الأمة ولا مشاحة في الاصطلاح كما يقول الأصوليون.

وابن خلدون استقرأ التاريخ جيدا ونظر إلى ماضي الدول التي سبقت زمانه، ودرس أوضاعها وأطر نظريته إطارا فلسفيا واجتماعيا استنتج منه أن مئة عام مدة كافية لمرور الدولة بظروف وأحوال وتقلبات تضعف شدتها وتقلل من سرعة انطلاقها، ولا سيما أن هذه المدة يعيش فيها ثلاثة أجيال على رأي من يرى أن الجيل ثلاثين سنة، فتعاقب الأجيال وتتابعها يحمل في طياته صورا من الاختلاف والتطور وتمر فيه أحداث كبيرة تجعل الدولة في عمرها المئوي عرضة لكثير من التغيرات في بنيتها وفي أسس تكوينها، وينال التغير القيم التي قامت عليها في أول مرة، مما يدفع القائمين عليها إلى إعادة النظر والمراجعة والتحديث لما اعترى مسيرتها من أشياء، ويجد المجدد للدولة أن عليه ضرورة تماسك بنائها، وترميم ما ضعف منها، أو مواكبة ما جد في الحياة من تطورات لم تكن معروفة ولا موجودة حين تأسيس الدولة وقيامها، أو ما طرأ عليها أثناء مسيرتها مع الزمن، لذا كان من الضرورة أن يكون التجديد وأن يوجد المجدد الذي لا يقل دوره عن دور المؤسس لنظام الدولة الأول.

اتسق رأي ابن خلدون وصح قبوله منذ نشره قبل سبعمئة سنة حتى عرفت الدولة القطرية الحديثة الديمقراطية وآليات عملها وتبادل السلطة بين أحزابها.

هنا بدأ فاصل زمني ومعرفي مختلف غير ما ذهب إليه ابن خلدون، وبدأ عصر التجديد الذاتي للدولة حين عرفت الانتخابات والأحزاب وتداول السلطة داخل هيكل الدولة القائم، فالحزب الذي يفوز في الحكم يستمر زمنا محدودا لا يتجاوز العقد الواحد في أكثر الدساتير المعتبرة، ثم يفوز حزب المعارضة بالحكم، وتبدأ معه دورة التصحيح لأخطاء الحزب السابق وإصلاحها وتجديد العمل وهكذا دواليك، فلا يصيب الدولة الهرم ولا تضعف ولا تحتاج إلى مجدد ينتظره الناس على رأس كل قرن كما زعم ابن خلدون.

مضى على أمريكا مثلا أكثر من مئتي سنة لم يصبها الهرم ولا الضعف، لأن ديناميكية الديمقراطية وتجددها وتبادل السلطة بين الأحزاب يحقن في شرايين الدولة عناصر التجديد والقوة والاستمرار لمواكبة الحال، بعد كل بضع سنوات يكون الحزب الفائز في الحكم مجددا ومعيدا للدولة نشاطها وديمومتها، بغض النظر عن نوع الحكم هل هو ملكي وراثي أم دستوري، فملكة بريطانيا في الغرب وإمبراطور اليابان في الشرق مثالا على استمرار الدولة الملكية وحيويتها وقيامها بوظيفتها إذا مكننت أعمالها وأخذت بأدوات عصرها كي لا يصبها الهرم ولا الضعف. ما يحصل من تطوير وتغيير في آليات عمل الدولة شيء تدعو له الضرورة ومتطلبات العصر وهو ما يضمن لها القوة والاستمرار بوظيفتها ويبعدها عن مراحل الضعف والترهل.

Mtenback@