الفراشة.. ونار الجامعة

الأربعاء - 15 نوفمبر 2017

Wed - 15 Nov 2017

تسلل المرح من شبابه، وسبق الزمن متكهلا قبل أوانه.. لقد أتعبته صروف الدهر، وأعيته حتى انكفأ على نفسه، ونسي نغمة صوته، هو لا يظن أن أحدا لديه الوقت للاستماع لمحطم مثله، فإن همس لنفسه أنكرته، وإن صرخ فيها ارتدت عليه ذات متشظية نكرة، إنه لم يعتد على كره أحد، لكنه يكره هذا العجز الكامن فيها، وكسبب لتعاسة الأجنة التي لم يختر لها الانتماء لجذعه.. ولأنه متعب جدا، آلت ابنته التي انطفأت إشراقة وجهها مبكرا، وهي تكبر إخوتها، إيلاتا على نفسها أن تقفز على طفولتها قبل أوانها، وتدع ألعابها مع قريناتها في حدائق القرية، وتزهد بكمالياتها على مقاعد الدراسة، مؤملة إشعال القناديل الصدئة في حياة والدها بكل ما تملك من طاقة.. أنجزت دراستها الثانوية في القرية بامتياز، وذهبت تسابق الزمن، لعلها تقتبس لحظات فرح حلوة تزجيها في عمر والدها المر، وترجو له ابتسامة محضة تلون لوح وجهه الشاحب.. ابتسامة واحدة تكون صادقة، وقوية، تمسح بها ملامح البؤس المرافق لحياة عائلتها الصغيرة.

وفي صباح يوم ربيعي، حملت الفراشة ملفها وملأته بالأوراق المطلوبة، شهادة الثانوية، وورقة مختومة بحسن سيرتها وسلوكها، ودفتر العائلة المكلومة، وحملت في نفسها ملفا آخر ورديا مليئا بالأحلام وتطلعات مستقبلية مشرقة بأنوار شمس جديدة، ليست كالشمس التي كانت تحرق وجه أبيها ولا تزال تفحمه، تتخيل وترى تلك اللحظات السعيدة التي تقدم فيها مركبة جديدة لوالدها، وتتصور الحياة التي ستجمعهم في ردهات ذلك المسكن النظيف.. وفي طريقها إلى المدينة، نحو تحقيق خطوات حلمها الأولى، توقف الباص عند التقاطع الذي يربط طريق قريتها بالطريق السريع، انتظار طويل لمرور المركبات المسرعة، وفي هذه الأثناء نزلت فراشة على الشباك الذي كانت تنظر من خلاله، فز قلبها، وبسرعة خاطفة قفزت وفتحت النافذة مع دوي صيحة فرح وأمل بأنها في طريقها لإيجاد الفراشة الضائعة، تحرك الباص بسرعة على شتائم السائق المحتقن دائما، واتهامه المستمر لكل الطالبات بالجنون، ضحك الجميع، إلا الفراشة عادت للصمت المرتبك، مشوشة لا تقر على فكرة، تتنهد بصعوبة بالغة.. تستجدي الهواء ألا يماطل شهيق رئتها الصغيرة! أكملت ما تبقى من إجراءات القبول والتسجيل في الجامعة.. وجمعت كل طموحاتها في كلية العلوم والآداب، علها تنفذ من خلالها للعالم الآخر، ولكن الذي لم يكن في الحسبان أن الجامعة قبلتها في كلية لم تتصور أن تنتسب إليها، وهي ترى في الوقت ذاته زميلات أقل من درجاتها تجاب لهن الرغبات.. إنها عقوبة البسطاء إن هم تجرؤوا على ما لهم حق فيه.. وبرفض جامعة العلم والتنوير هذا الانحراف المتمثل بحق الاختيار والتثوير.. والحال يقول لها.. أنت فتاة حالمة جدا لا تعرفين الواقعية، كحال جيلك من الشباب والصبايا.. فنحن نفكر عنكم ونقرر لكم الصالح.. هنا صدمة تضاف لعتيقاتها .. دوامة جديدة.. بكت بكاء مريرا، وقررت أن تبحث عن «واسطة» ولكن من يتوسط للمعدمين.. اتصلت بقريب لها بسيط مثلها.. تنتخيه أن يبحث عمن ينصرها أمام تعسف الجامعة.. أجابها، وذهب لشخص في طرف القرية، ظهرت له صورة في الصحف تجمعه مع المسؤول عن أمر الجامعة، تعاطف معها هذا الشخص، واستدرك.. أن هذا الوكيل لم يعد يرد على اتصالاتي منذ أن توفى ذلك الشيخ العظيم، وربما كان يجاملني لصلتي بالمرحوم فقط!

تمتم قريب الفراشة.. حتى أنتم علاقاتكم محكومة بالانتهازية والمصالح.. أين ذهبت القيم.. أهي خطوط على الورق، وترف على المنابر، أم أن الجوانب الإنسانية الخالصة لوجه الله قد اندثرت؟

لقد احترقت اليرقة في نار الجامعة قبل أن تكتمل فراشة، تنقطع في دراستها وتعود وفي النهاية، انتهى الحلم الكبير.. في المطبخ بين الصحون الخردة، ومرافقة أمها الفراشة في تنظيف مدرستها الثانوية.