هبة قاضي

احجز مكانا في المنطقة الوسطى

السبت - 07 أكتوبر 2017

Sat - 07 Oct 2017

إني خيرتك فاختاري

ما بين الموت على صدري..

أو فوق دفاتر أشعاري..

اختاري الحب.. أو اللاحب

فجبن ألا تختاري..

لا توجد منطقة وسطى

ما بين الجنة والنار..

رغم أنها إحدى أجمل قصائد الشاعر الكبير نزار قباني، والتي يستدل بها البعض للتعبير عن مواقفهم القوية تجاه آرائهم وخياراتهم في الحياة، إلا أنني أختلف معه فيها. نعم أجرؤ أن أختلف مع نزار، لأنني من أكثر الناس إيمانا بالمناطق الوسطى، فما أجمل، وأريح، وأوسع المناطق الوسطى، حيث تستطيع النظر في كل الاتجاهات وحيث تكون لست مضطرا للانحياز. أما لو استطعت أيضا الارتفاع فإنك ستكافأ بمشهد بانورامي يطلعك على كامل الصورة وبوضوح شديد، مع ثباتك وشعورك بالارتكاز والمركزية الذاتية في الوقت نفسه.

ولضمان حجز مكان لك في المنطقة الوسطى، هناك متطلبات، نعم عليك نفض نفسك نفضا للتخلص من مجموعة كبيرة من المعتقدات، والقناعات، والأفكار القديمة التي عفا عنها الدهر، وبدء اعتناق مجموعة جديدة من الأفكار التي ستضمن لك المواكبة، والتطور، والأهم النماء والعيش الطيب في عالمنا الجديد.

الفكرة الأولى، الأولوية للصحة النفسية والنماء الروحي: في القرن العشرين كان معظم العالم يعاني من المجاعة، والأوبئة، والحروب. وعليه كان تركيز كل الأنظمة والحكومات والمفكرين على إيجاد حلول لاستمرار الإنسان حيا. في القرن الواحد والعشرين اختلفت الأولويات لتصبح العدالة، والحرية، ونوعية الحياة. فبعد أن توفر الأكل، والأمن، والصحة امتلك الإنسان رفاهية التفكير فيما وراء احتياجاته الأساسية. وربما يفسر هذا سبب انتشار الاكتئاب، والتشتت، والفراغ الروحي في هذه الألفية. لذا لم يعد تطوير الذات، والصحة الروحية والنفسية رفاهية، بل متطلبا ومستلزما عليك إدخاله لحياتك حفاظا على علاقاتك، ورزقك والأهم على نفسك.

الفكرة الثانية، المرحلية سنة كونية: دائما ما ينصب تفكيرنا على الأبدية في أمور حياتنا، العمل، والزواج، والعلاقات، والصداقة، والاستثمار. لذا حين تنتهي نعتبرها مصيبة ويصعب علينا النظر بإيجابية للوضع. في حين أننا لو نظرنا إلى حياتنا لوجدنا أن انتهاء الأشياء لا يعني فشلها وإنما يعني أن دورها في هذه المرحلة من حياتنا انتهى. وسواء كنت ناضجا لدرجة مبادرتك بالإنهاء، أو انتظرت حتى تدهورت الأوضاع وحصل ما يجبر على الإنهاء، فإنه لا أحد يستطيع إيقاف عجلة التلاحق الطبيعي للأمور. لذا تعلم التأقلم، وارفع مستوى فهمك لنفسك، وبالتالي وعيك بالمتغيرات، بحيث تستقرأ التغيير، وتستعد له، وتسرع تأقلمك معه، وربما تصل لمرحلة التخطيط له، مستقبلا إياه بحفاوة.

الفكرة الثالثة، الاستقلالية الفكرية فطرة إنسانية: انتهى عصر التبعية الفكرية، فإن كنا في الماضي نعيش تيارا فكريا واحدا أو مهيمنا يتبعه جميع من حولنا، إلا أننا في عصرنا الحديث نتعرض كل يوم لعشرات التيارات الفكرية الجديد. وكما أنه ليس من المنطقي أن ننساق خلفها انسياق الثور في الساقية، إلا أننا أيضا لا يعقل أن نرفضها دون المرور عليها وأخذ ما يلائم شخصنا ويغطي احتياجاتنا الفردية. نعم عليك تكوين فكرك الخاص، وآرائك الخاصة، ومواقفك الخاصة، مع تقبل اختلاف الآخرين، لأنهم بالتالي سيتقبلون اختلافك بكل رحابة صدر.

عزيزي الشاعر الكبير والمرحوم نزار قباني، لك مني تحية إجلال وتقدير لكل تلك الجماليات، والأدبيات، والروائع التي تركتها خلفك والتي ما زلنا نعيش بها ومن خلالها أجمل المشاعر واللحظات، ولكن للأسف ما زال كثير منا يترك نفسه وفكره للمتفننين في صنع الدراما، والملاحم، والحميات، والحاملين لأسفار الماضي إلى زمن لم يعد لها فيها مكان، متناسين أن أجمل الشعر أكذبه، وأن بعض الشعراء يتبعهم الغاوون.