عجائبية الارتهان للبؤس

السبت - 18 مارس 2017

Sat - 18 Mar 2017

في ظل زخم روائي تنهمر به دور النشر يحاذر القارئ التورط في فخاخها، ولكوني أتوجس حتى من أغلفة الكتب وأكره اقتناء يفرضه الشكل قبل المضمون، كنت سأتجنب قراءة رواية «الرحلة العجيبة للفقير الذي ظل حبيسا في خزانة إيكيا» خاصة وأنها ممهورة بجائزة فرنسية، ولا يخفى عليكم انتهازية التسويق بالجوائز في أيامنا.

كل ذلك لم يجنبني الوقوع في أسرها ذات أمسية اشتهيت فيها معانقة السرد ولذة الأخيلة، كنت أتهرب فيها من كتابة عرض عمل يفرضه الدوام، فلم أفق من سكرتي إلا وأنا قد تجاوزت المئتي صفحة.

غواية القراءة في حبكة رومان بيترولاس التي ترجمها حسين عمر وصدرت عن المركز الثقافي العربي يعود – ربما – إلى واقعيتها الساخرة، ومتانة علاقة شخصياتها وانتقالاتها المكانية مع عناية بالتفاصيل.

رحلة الهندي آجاتاشاترو لافاش باتيل التي ابتدأت بباريس وانتقلت إلى بريطانيا وإسبانيا ثم إيطاليا وليبيا ومنها إلى باريس، تشكل مغامرة قسرية إلى مرابع الفقراء في جيبور الهندية وتقف بنا على حيل الزهاد الراجستانيين الذين يمضون حياتهم شبه عراة يمارسون الخدع والحيل في الشوارع، كما تحكي معاناة الهاربين من بؤس الأوطان رغبة في الوصول إلى «البلدان الجميلة» موثقة مأساوية السفر إليها في مقطورات بين صناديق الفراولة الإسبانية والكرنب البلجيكي، والرحلات العابرة للقارات، وراكبي القوارب البدائية التي تنطلق من جحيم ليبيا إلى معاقل السواحل الإيطالية أو إلى لجة البحر، أقدار تتداخل بحثا عن الحياة تحت ظلال عالم تحكمه الأنظمة وتسيجه القوانين.

يتطابق الاسم الثاني من اسم بطل الرواية «لا فاش» مع معنى كلمة «بقرة» في اللغة الفرنسية، حيث يستثمرها المؤلف في مواضع عديدة تتضاءل فيها شخصية المحتال تحت سطوة الأقوياء، مع سخرية لاذعة في الانتقالات والمفارقات التي تواجهه، حتى في تحوله لكاتب بين ليلة وضحاها.

الثلاثمئة صفحة تسرد بذكاء مواجهة الإنسان لذاته وانكشافها أمام وقائع الحياة مع صعوبة التحول عن الأخطاء، الأمر ذاته يستعصي على عالمنا اليوم مع سيطرة الصراعات وانتشار رقعة تأثيرها على البلدان حتى تلك المستقرة منها.

قد يستلزمنا التغيير عمرا وربما رحلة عجائبية لنصل إلى معرفة أننا يجب أن نترك تلك الطرق المواربة ونتجه لتصحيح مساراتنا في الحياة، حيث نتصالح مع ذواتنا ونكتشف الحب ونعمر العالم المتهدم من حولنا.