سليمان الضحيان

المنطق العقلي لخطاب التطرف الديني

الأربعاء - 11 يناير 2017

Wed - 11 Jan 2017

التطرف: الاعتقاد بقيم ومعتقدات تؤدي بمعتنقها إلى صنع عالم خاص به، رافضا التعايش مع من يختلف معه في أي جزئية من قيمه ومعتقداته، وقد يتطور الأمر إلى محاولة إكراه الآخرين على الإيمان بقيمه ومعتقداته بواسطة العنف، كما هو مشاهد في حوادث العنف التي تقع لدينا بين الفينة والأخرى، فهل المتطرفون حفنة من المجانين غير العقلانيين المهووسين بالدم والقتل والإفساد؟



الحق أن وراء هذا الهوس بالدم والقتل الذي يراه الجمهور بنية فكرية متكاملة ذات منطق صارم في إحكامه، يكتسبها المتطرف شيئا فشيئا حتى يؤمن بمنطقها الكلي المتكامل، ثم ينذر نفسه جنديا مستعدا للتضحية بنفسه في سبيل تحقيق الفكرة.



ودون فهم هذه البنية يستحيل تفكيك خطاب العنف، فالفكرة الكلية هي (العبودية الخالصة لله)، وتتكون من جزئيات يفضي بعضها إلى بعض بتسلسل منطقي صارم، فالفرد خلق، ليعبد الله، وكل ما في الكون سخره الله للإنسان، ليعبده، ولا تتحقق العبودية دون هيمنة حاكمية الله على البشر بواسطة شريعته، وكل من حال دون تحقيق هذه الحاكمية فهو كافر، وهذا ينسحب على الحكام الذين لا يحكمون بما أنزل الله، وعلماء الدين الذين يعملون معهم، والقضاة الذين يعملون لصالح تلك الحكومات، وجنود الجيوش التي تحمي تلك الدول التي لا تحكم بما أنزل الله، وتكفير من لا يكفر من سبق ذكرهم من الحكام والقضاة والعلماء والجنود.



والتكفير هذا يستلزم استباحة دمائهم، وحل أموالهم، وكل هذا الوضع الجاهلي الكافر يجب البراءة منه أولا، ثم السعي لإزالته ثانيا، ولا يتم هذا إلا من خلال طليعة مجاهدة تنذر دماءها رخيصة لتطهير البشرية من أردان الجاهلية، وهذه الطليعة هي الفرقة الناجية المختارة من الله لإعلاء كلمته، وتحقيق عبوديته الخالصة، وهي التي تستحق خلافة الله في الأرض، وهي طائفة الغرباء الذين يصلحون ما أفسد الناس.



وأنت إذا نظرت للفكرة الكلية السابقة، وهي (العبودية الخالصة لله)، والفكرة الجزئية (تحكيم الشريعة) وحدهما تجدهما ضمن حدود المعقول الديني الذي لا إشكال فيه، لكن منطق التطرف الصارم يتدرج بعقلية المتطرف شيئا فشيئا حتى يبلغ به الذروة من خلال التدرج في بناء عقلي محكم، يتكون من فكرة رئيسة: (العبودية لله)، وآلية تحقيق الفكرة الرئيسة، وهي آلية: (تحكيم الشريعة)، ونتائج تخلف الآلية: (التكفير)، ووسيلة تحقيق الآلية: (الجهاد)، وثمرة تحقيق الفكرة: (خلافة الله في الأرض)، والعوض في حال الإخفاق في تحقيق الفكرة: (الاستشهاد ودخول الجنة).



هذا البناء العقلي المحكم ذو المنطق الصارم لخطاب التطرف والعنف يقابله خطاب ديني يطرح نفسه مقاوما للتطرف، لكن بناء الخطاب المقاوم غير محكم، فهو يتصف بشيء من التناقض بين مقدماته ونتائجه، فهو يشارك خطاب التطرف في الوقوف على أرضية الفهم التراثي للفقه السياسي، ولهذا فهو يتقاطع مع خطاب التطرف والعنف ببعض الجزئيات التي تفضي حتما - وفق الفهم التراثي للفقه السياسي - للنتائج التي يؤمن بها خطاب التطرف.



لكن الخطاب المقاوم للتطرف لا يؤمن بتلك النتائج، وهذا ما يجعله في نظر المتلقين المتدينين المخلصين للفكرة وفق الفهم التراثي متناقضا، فهو يوافق الخطاب المتطرف في بعض جزئياته، كالقول بكفر تارك تحكيم الشريعة مطلقا دون تفريق، ووجوب قتل المرتد، وتقسيم العالم لدار كفر ودار إيمان، والنظر إلى الخلافة الراشدة على أنها ستعود يوما، وشرعية جهاد الطلب، وقضايا الولاء والبراء، وتوسيع نواقض الإسلام، وشرعية استرقاق الأسير، وغيرها من الأفكار. وفي المقابل لا يتصف بصفة الاطراد في تلك الأحكام تأصيلا وتطبيقا، وهذا ما يجعله من حيث الإحكام المنطقي لا يستطيع مقارعة خطاب التطرف العقلي المحكم المطرد بين التأصيل والتطبيق.



ولا يمكن مقارعة خطاب التطرف دينيا إلا بخطاب ديني من خارج دائرة الفهم التراثي للفقه السياسي، خطاب ديني يؤمن بأثر حركة الاجتماع البشري في فهم الدين في قضايا السياسة والاقتصاد والاجتماع وفق متغيرات الواقع ومقاصد الشريعة، وهذا حديث طويل، قد تسنح الفرصة للكتابة فيه لاحقا.



[email protected]