الاستقطاب بين الثقافة والسياسة

الأربعاء - 28 ديسمبر 2016

Wed - 28 Dec 2016

منذ بدء مرحلة ما اصطلح على تسميته بـ«الربيع العربي» وغالبية الناس يؤيدون الثورات العربية التي شارك فيها كل أطياف السياسة والمجتمع، ولكن اتضح فيما بعد أن تلك البلدان تتجه إلى احتمالين: إما الحرب الأهلية أو الاستفراد بالسلطة، مع سقوط اقتصادي ذريع.



فبعد انتهاء الثورة التونسية والمصرية تحديدا اتضح جليا بروز تيار الإسلام السياسي الذي كان دوره واضحا في الثورتين، إلا أنه تحول فيما بعد إلى إعلان الاستئثار بالسلطة، مما أشعر الأطياف السياسية الأخرى أنها ستكون خارج معادلة الشراكة السياسية المفترضة، ولا سيما أن الديمقراطية ليست فقط «الانتخابات» والفوز بمقاعد الأغلبية، فحكم أغلبية الأصوات لا يعني عدم وجود كوارث مستقبلية، كما حصل مع هتلر وموسولويني اللذان قاما بإقصاء الأحزاب والتيارات الأخرى وحرماها من أن تكون شريكا في اللعبة السياسية من خلال موقع المعارضة، وأظهرا نزعة التوسع والانخراط في تدويل الحروب في أوروبا، وهذا الأمر ذاته ليس بعيدا من أن يحصل في عصرنا الحالي فالديمقراطية قد تعيد إنتاج العجلة من هذه الناحية، وما الوجل الذي أظهره العالم من فوز الرئيس الأمريكي دونالد ترامب إلا خوف من إعادة العنف والصراع إلى العالم.



وعلى الرغم من الدعوات العالمية إلى تقبل التنوع والاختلاف والتعددية فضاء للجميع لا يحق فيه لطرف أن يفرض رؤاه على غيره من الأطراف في مجتمع متعدد الثقافات والمشارب كما هو الأمر في أوروبا، إلا أن بروز الدعوة إلى «إدارة التنوع» يقصد بها التعامل مع الإسلام الذي يمثله المهاجرون واللاجئون المسلمون الذين وفدوا إلى أوروبا في مرحلة ما بعد «الربيع» العربي، وهي مرحلة أثبتت للعالم أن المجتمعات العربية التي مرت بها دول «الربيع» تعيش تجربة استئصالية شنيعة، هي أسوأ بكثير من الوضع القائم، وهذا انعكس بوضوح في الفوضى التي اتضح أن محصلتها هي الحروب الأهلية.



فخلال ذلك العام الذي «اندلع» فيه الربيع العربي كان المستقبل المتخيل يوحي بأحلام وردية محورها الديمقراطية والحرية والعدالة، ولكن واقع الإدارة كان فاشلا فكريا وسياسيا، وأفرز ذلك استقطابا حادا لم تستوعبه محاولات التهدئة، وبالتالي لم يكن هنالك متسع من الوقت -في ظل الارتباك- لمراجعة الأوراق السياسية، حتى لو ترتب على الأمر التخلي عن السلطة، كما حصل في مصر وسوريا واليمن، بل لم يفضِ التخلي عنها وانتقالها إلى وجوه جديدة موقتا إلى الهدوء، وكان صعبا إعادة الأمور لنصابها من جهة، والانتقال بها إلى الاحتمال الديمقراطي من جهة أخرى.



وقد انتقلت حالة الاستقطاب تلك من السياسة إلى الثقافة، فعلى الرغم من أن العالم كله لا يوجد به حريات مطلقة حتى في أعرق الديمقراطيات، إلا أن الشعور الموقت بالحرية السياسية آنذاك تحول إلى صراع بين الفكر والفكر الآخر، وكان المثقف الذي يصرح بآراء مختلفة عن السائد الشعبي يوصف بالتبعية للسلطة القديمة، على الرغم من أن موقف المثقف مع السلطة في القضايا المصيرية شيء، واختلافه معها في قضايا أخرى شيء آخر؛ لأن الوقوف مع الوطن كان هدف الجميع في النهاية.



لا يوجد إنسان ليس له رأي، ولولا اختلاف الآراء لبارت السلع كما يقال، وبما أن الحياد نفسه نسبي فإن بعض أهم مفكري أوروبا -وهم خارج نطاق العالم العربي- اتخذوا مواقف صارمة تتسق مع سلطات بلادهم، فليس منطقيا أن يكسب المثقف جانبا ما ويخسر وطنا، ومن ذلك على سبيل المثال فرانسيس بيكون وهيجل وغيرهما، اللذان كانت مواقفهما مع وحدة واستقرار بلديهما-إنجلترا وألمانيا- ولم يقبلا بتفككهما أو المساس بوحدتهما الوطنية، ولكن لم تكن حالة الاستقطاب كعصرنا الحالي، وهذا ما أظهر الموقف الثقافي عقلانيا.