ارتباك الفعل الثقافي

الأربعاء - 16 نوفمبر 2016

Wed - 16 Nov 2016

في زمن ما بعد العولمة -كما وصفه الدكتور الغذامي- أصبحت صورة المثقف أكثر بساطة لدى الجمهور الذي لا تهمه تلك الموجة العميقة داخل العمل الثقافي، ويريد من صاحب القلم السحري أن يكون صوتا لمتاعبه الاجتماعية والاقتصادية في مقالة لا تسهب كثيرا في التفاصيل، ويكون لها إيقاع يضحكه مرة وينير له الزوايا المظلمة كثيرا، أو يتفاعل معه على مواقع التواصل الاجتماعي التي صارت أداة في يد مثقف اليوم يصل بها لكل من يتابعه في أي وقت، وهذا ما يحمل المثقف العبء في تأدية دور مميز ويطالبه بالمزيد من الجهد، وأداة يستخدمها الجمهور في رصد تناقضه وأخطائه.



المثقف ذلك الإنسان الذي يجعل من معرفته خبرا أو مقالا، أو عملا أدبيا وفنيا يطرح من خلاله الهم الاجتماعي الخاص أو الأممي والسياسي الإنساني، ويحمل على عاتقه مسؤولية توعوية ووطنية، ويسعى من خلال أعماله إلى خير وطنه وأمته، يجيد النقد ويلتزم بالموضوعية والأمانة، وهذا ليس إلا تعريفا بسيطا يمثلني إلى جانب العشرات من التعريفات التي وضعها المثقفون أنفسهم أو غيرهم.



وهناك خلط غير مقصود بين المثقف الحقيقي ومدعي الثقافة، فالأول هو من يعمل تحت سقف الإنسانية العالمية ويهتم فعلا بالاطلاع على الثقافات المختلفة ويتفاعل معها انطلاقا من قاعدة (المعرفة والعلم حق لجميع الناس) وينقل معرفته وفق وجهة نظر محايدة تتقصى الظواهر والأحداث من مختلف الأوجه المرتبطة بها، ويتتبع تاريخها وما ستؤول له ويقترح بعض الحلول للمساعدة في فهمها أو تخطيها.



وهذا مالا تأتي به الفئة المدعية، فهي تكون مع الصوت الغالب حتى لو خالف ضميرها، وتضع لرضى المجتمع أهم أولوياتها ولو كان رأيه هلاكا محققا، لغتهم محملة بالتمييز وتستند قوة مواقفها على الموجة العامة المؤيدة لها، وغالبا تبخس من أهمية أي جهد إنساني مختلف عنها، ومجمل الحلول التي تطرحها إقصائية وغير مبتكرة.



تأطير عمل المثقف وقص أجنحة الإبداع:

إن أخطر ما يسببه تقييد الثقافات وتأطير العلوم؛ هو تحرك العملية الثقافية والمعرفية في دائرة مغلقة لا تنتج جديدا وتصبح غالبا تكرارا ونقلا، حيث إن العقل الذي لا ينتج الأسئلة، وينطلق للبحث عن الإجابات؛ سيأخذ وضعا آليا لا يتطور، وقد يكون هذا أحد مسببات اختفاء الفيلسوف العربي منذ أمد؛ فالفلاسفة هم خلاصة الحالة الثقافية لكل حضارة، حيث نجد أغلب مثقفينا أبناء مدارس فلسفية أجنبية، أو مجموعة من المتعنتين في وجه المدارس الأجنبية، ولكنهم لا يبارحون مرحلة العصر الإسلامي الوسيط ولا ينتجون شيئا جديدا ومؤثرا.



لم يصل المثقفون اليوم إلى نقطة التقاء تؤثر بشكل ملموس في تغيير الكثير من الأنماط والسلوكيات الاجتماعية السيئة أو التي لم تعد تناسب طبيعة المرحلة الزمانية، رغم أنهم يعملون على شرح القضايا الاجتماعية الحساسة للمسؤول بشكل مؤثر، ولكن العمل الفردي سيد المشهد، ويعلو صوت التكتلات الحزبية، واختصر النشاط الثقافي في الأندية الأدبية وبعض معارض وملتقيات تعاني العزلة، وليس لها صدى إلا في أوساط المثقفين فقط؛ وهي الأخرى لم تسلم أيضا من الصراع الأيديولوجي والتكسب الشخصي إلى حدٍ لا بأس به، ثم إن المثقف المتعنت يأخذ دور المراقب للمشهد منذ ثلاثة عقود بشيء من الريبة دوما، ويحاول تطويق وتصنيف الثقافة والمثقف ومقاضاته، فسادت حالة من التحفظ والتعبير غير المباشر عند كثير من المثقفين، أو البعد عن كل عمل قد يضعهم في موقف تضييق واستهداف من حزب المتعنتين.



عندما تكون محسوبا على المسرح الثقافي، فهذا يستوجب الكثير من الشجاعة حتى تصوغ جملتك السحرية، وتوصلها بكل أمانة وموضوعية للناس، أو كما يقول الفيلسوف الأمريكي نعوم تشومسكي «المثقف من حمل الحقيقة في وجه القوة».