صالح عبدالله كامل

مقال الختام لصحيفة مكة

السوق
السوق

الاحد - 23 أكتوبر 2016

Sun - 23 Oct 2016

حاولت جاهدا أن أقنع نفسي بالاستمرار في كتابة مقالي الأسبوعي هذا.. والآخر في جريدة الأخبار المصرية.. ولكنني لم أفلح في الضغط على صحتي التي لها علي حق، ولا على يدي التي باتت أوردتها نهبا لوخز الإبر، ولا على مزاجي الذي غدا متعكرا بفعل ما يدور في الساحات الورقية، وما يجري بين أقلامها من حوارات ومصادمات وشيء من اللامعقول بين مكتوب ومنقول.. حتى غدت الساحة (في معظمها) أحبارا متلونة، وأخبارا غير متوازنة.



ووجدت، وأنا هنا في الصين، وقد استغللت الوقت المتبقي عقب الانتهاء من الأمور العلاجية وحتى موعد نومي المبكر.. استغللت هذه السويعات في تسجيل عدد من الحلقات الأسبوعية لبرنامجي «السوق» الذي يبث على قناة اقرأ الفضائية الوسطية.. والتي تتمتع بفضل الله، بمراقبة الله أولا، ثم بإعمال الضمير ثانيا.. خاصة وهي تصل إلى معظم مسلمي العالم وبلغات متعددة. وكم أحمد الله على ردود أفعال مشاهديها في كل مكان.. خاصة فيما يتعلق بأمور الدنيا التي يغذيها الدين الصحيح والإسلام الحنيف، وينير دروبها القرآن الكريم كما نزل على سيد المرسلين وخاتم النبيين عليه وعلى آله وصحبه الصلاة والسلام.



وجدت عزيزي القارئ، أن الكلام والحوار أسهل علي من كتابة الموضوعات ومتابعة التطورات، والدخول في مناقشات الرأي، الذي عادة ما يفسد تعارضه ود كل قضية.



وبالطبع أنا هنا لا يمكنني أن أحجر على ممارسة الرأي، خاصة والبلد اليوم مقبل على تحولات ورؤى، تحتاج من المتفرغين الإسهام والمتابعة. بينما أستطيع من خلال برنامجي «السوق» في قناة اقرأ، أن أكيف جهدي ووقتي، دون الوقوع تحت تأثير الالتزام الذي حرصت عليه جدا مع قارئي العزيز، ومع صحيفة مكة طوال كتابتي الأسبوعية منذ أن انطلقت الصحيفة بمباركة ودعم الملك الجليل الراحل عبدالله بن عبدالعزيز، أسكنه الله فسيح جناته، وجعل ما قدمه لدينه ووطنه في ميزان حسناته.. ولم أحرم منذ تلك الانطلاقة وما سبقها من إعداد وتهيئة من الدعم السخي والمؤازرة الوفية من مستشار خادم الحرمين الشريفين أمير منطقة مكة المكرمة الأمير خالد الفيصل بن عبدالعزيز، حفظه الله ورعاه.. الأمر الذي دفعني دفعا لمواصلة الالتزام دون كلل أو ملل.



ولكن لكل طاقة مقدارا، ويبدو أنني استنزفت كل طاقاتي في هذا المجال.. وكم يعز علي أن أحرم من لقائي «الاثنيني» معكم، ولقد كان خالصا لوجه الله ثم لكم.



وبينما كنت أحاول أن أنتقي موضوعا يكون خاتمة لسلسلة هذه المقالات.. إذا بحفيدي لابنتي (صالح) يفتح موضوعا حول القوانين التي تنص، هنا في بكين، على أنه من حق السيارات ذات الأرقام الفردية أن تسير في الشوارع يوما، والسيارات ذات الأرقام الزوجية تسير في اليوم التالي، وهكذا.. فسألته عن رأيه في هذا القانون المروري.. فقال: «والله يا سيدي مشكلة.. يعني الواحد يبغاله يشتري سيارتين وحده بأرقام فردية والأخرى بأرقام زوجية.. على الأقل يقدر يروح عمله أو جامعته كل يوم..». وتبسمت وسألته: هل تعرف يا صالح لماذا وضعوا هذا القانون؟ فقال، بحكم تأثير ثقافته المحدودة، وتعود الكثير منا في منطقتنا العربية بالنظر إلى نص القانون وليس روحه، ما أدري يا سيدي.



والقوانين عادة يعتقد الكثيرون أنها وضعت لتكسر أو لنخالفها.. فعند البعض هذا يعتبر شيئا من النفوذ والقوة. على الرغم من كل المواد العقابية التي تنشر مع كل قانون.. وكنت قد أشرت في مقالة سابقة، إلى إيجابية العقوبات التي وردت مصاحبة لقانون التفحيط، والتي أعتقد أنها قد حدت نوعا ما من هذه الظاهرة المفترسة.



وقلت له: يا صالح، هذا القانون هنا في الصين ليس الغرض منه دفع الناس لشراء سيارتين بلوحتين مختلفتين.. هذا القانون وضع ليشارك الناس في ركوب سيارة واحدة في يوم معين، فيتعارفون ويتقاربون ويتناقشون. هذا روح هذا القانون، أما نصه وغايته فهما الحد من كثافة السيارات وتقليل الأعداد إلى النصف تقريبا، وأشرت له إلى أحد كبار الأطباء الذين يتولون علاجي قائلا: هذا الطبيب صاحب الدخل العالي تقدم إلى الجهة المختصة لشراء سيارة منذ عام 2011 وإلى الآن لم يحالفه الحظ وتأتيه الموافقة.. فقال: وكيف يذهب إلى المستشفى كل يوم؟! قلت مع طبيب آخر زميل له حالفه الحظ أكثر منه.



وللعلم: فإن أعلى المرتبات هنا يحصل عليها حسب الترتيب: القاضي ثم المدرس ثم الطبيب ثم الممرضون. ولا تعتقد رغم أن عدد سكان الصين نحو مليار ونصف المليار نسمة، أن عدد الموظفين في الدولة كبير.. عددهم فقط سبعة ملايين موظف.. وتخيل أن مصر التي عدد سكانها نحو مئة مليون نسمة، أيضا عدد موظفيها سبعة ملايين موظف!



وعندما أقول إن الاقتصاد الصيني في نظري هو الأول عالميا، وليس الاقتصاد الأمريكي.. فمرد ذلك إلى أن ديون الفرد الصيني أقل من ديون الفرد الأمريكي.. وبقانون النسبة والتناسب فإن الفرد الأمريكي من حيث الإنتاجية هو الأسوأ.. وقد طلبت من بعض الإخوة إعداد رسومات بيانية سأستعرضها بحول الله في برنامجي «السوق» بقناة اقرأ.. وفيها وبها سيتضح أن توجه الشعب كله إلى الوظيفة ليس في صالح الموظف ولا الدولة. ولقد ظنت بعض حكومات المنطقة، إن لم يكن معظمها، أن أولى مسؤولياتها هي: تسكين الشعب على الملاك الوظيفي.. فزادت نسبة الاعتماد على الوظيفة وقلت الاستفادة من قدرات وطموحات المواطن.



وبالمناسبة، وزير الخدمة المدنية قال: الإنتاجية (1) ساعة للموظف.. أمانة المدينة وضعت البصمة 5 مرات، ثار أغلب موظفي الأمانة.. ولو كانوا يحضرون لا يضيرهم 5 أو 10 مرات، وهذا في الإدارات التي بها بصمة. وقد قلت في مقالات سابقة إن الحكومة ليست مسؤولة عن توظيف كل الناس إلا بقدر حاجتها.



وأنا في الصين سألت فوجدت أن موظفي الحكومة الصينية سبعة ملايين موظف وهم مليار ونصف، ونحن مليونا موظف، وفي قول آخر أكثر.. وعددنا 20 مليونا.. فلنقارن بين كفاءتنا وكفاءتهم.



وأظن أن المرحلة القادمة، إذا أراد الله، ستشهد تحولا من الوظيفة المحدودة إلى الأعمال الحرة، حيث إن مجال الإبداع وتسخير الطاقات الإنتاجية الذاتية هو الذي سيسيطر على السوق بحول الله.. وسيتحول كثير من الموظفين إلى أصحاب أعمال ومهن.. وحيث إن عدد الموظفين سينخفض، آثرت التوقف عن الكتابة.. لأنه سيأتي وقت لا نجد فيه قراء دائمين.. أدعو لكم ولبلادي بالخير ولقيادتها بالتوفيق والسداد.



والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.