صالح عبدالله كامل

شعب الصين .. الإحساس بالقناعة والشعور بالرضا

السوق
السوق

الاحد - 09 أكتوبر 2016

Sun - 09 Oct 2016

ورد في الأثر (اطلبوا العلم ولو في الصين).

جئت إلى الصين أطلب علاجا فجاءني أبناء ليكونوا معي أدلة ومرشدين، مدفوعين بنخوتهم العريقة وبشهامتهم الأنيقة، مصرين على واجبات الضيافة العربية، تاركين منازلهم في المدن الصينية الأخرى مثل - كوان جو - التي تبعد عن بكين العاصمة نحو ألفين وخمسمائة كيلو متر. جاؤوا إلى الصين طلبا للعلم والمعرفة، وحصل بعضهم على شهادة الدكتوراه وبعضهم من حملة الماجستير في تخصصات حيوية ومفيدة.



ولكم أعجبني إتقانهم للغة الصينية رغم تعدد لكناتها وأرتامها وطبقاتها الصوتية والتي تعد جزءا مهما من الكلام هنا.

جئت الصين مصحوبا بزوجتي - أم عبدالله - وواحدة من بناتي وأحد أحفادي. جزاهم الله خيرا حين أصروا أن يكونوا معي في رحلتي العلاجية هذه، وسبحان من أربى عددهم فصرت محاطا بعدد من الأبناء، زادوا من سعادتي واطمئناني وراحتي النفسية، بارك الله فيهم جميعا.



ورغم وصولي إلى الصين مع مطلع شهر أكتوبر، والذي تعد الأيام السبعة الأولى منه عطلة رسمية إلا أنهم في المستشفى التزموا بمواعيدهم معي احتراما لمصداقية الطبيب والمشفى، وبدأت أخضع للعلاجات الأولية والتي عادة ما تستمر حتى بعد الرابعة عصرا.. ثم تبدأ بعدها الرحلة الاستكشافية اليومية لمعالم العاصمة، والتي تبدأ بأحد «المولات» التجارية ثم تنتهي بأحد المطاعم العربية المتعددة والمنتشرة في بكين. ورغم ما يحكى أو يعتقد الناس أن الأشياء هنا رخيصة جدا، لكن الحقيقة أنها أغلى من كل عواصم الدنيا، وفوجئت بأن البعض من الصينيين يقصدون دبي على سبيل المثال من أجل تسوق أفضل.



ولكن هذا لا يعني أن ليس هناك أسواق تقليدية في العاصمة مثل سوق اللؤلؤ وسوق الحرير. وكما تجد «المولات» عامرة بقاصديها، تجد الأسواق التقليدية مكتظة بروادها وعارفيها. والعجيب، بل المدهش أنك تجد نفس البسمة ونفس علامات الرضا مرتسمة على وجوه الناس هنا وهناك!!

وتفحصت ذلك الانتقال الصيني من نظام الشيوعية والاشتراكية، يوم كان الناس يأخذون نفس المرتب الشهري بغض النظر عما يؤدونه للبلاد من خدمات وما يقومون به من أدوار أصبح الإنتاج غير ذي جدوى وصار المنتج يتساوى مع كل الخاملين.



وبدأ التغيير من الاشتراكية الشيوعية والانتقال إلى نظام السوق في مدينة - شانج هاي - والتي تعتبر بوابة الانفتاح الاقتصادي، وهي اليوم تعتبر العاصمة المالية للصين كلها. وهذه حقيقة حياتية تؤكد أن الأجر على قدر المشقة.. وهي حقيقة في الواقع عمل الدين الحنيف على ترسيخها وتعميق مفهومها، وعلها تتركز في الآية الكريمة «فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره»، أي إن الإنسان يحصد ما زرعت يداه من خير أو شر حتى لو كان مثقال ذرة.



وما ربك بظلام للعبيد. وقد خلقنا الله طبقات وسخرنا لبعضنا حتى تستقيم أمور الحياة.. وحين جرب الشيوعيون والاشتراكيون أن يجعلوا الناس طبقة واحدة، رغم ما بينهم من فوارق وقدرات في العطاء والفكر، وضعوا بلادهم وشعوبهم في قالب جامد واحد لا مجال فيه للفكر والابتكار وقتلوا قدرات الناس في صدورهم وجمدوا في سواعدهم العطاء. حتى انفكوا من عقال هذا الفكر العقيم، فانطلقوا يسابقون الأمم وتفوقوا حتى على أكبر الدول الرأسمالية، وبالرغم من اعتقادي أن الاقتصاد الصيني يجب أن يكون في المرتبة الأولى عالميا، إلا أن احتلاله المرتبة الثانية بعد الولايات المتحدة، يعد ضربا من الرياء العالمي الذي قد لا يتفق مع الواقع على الأرض.. فهناك فرق بين اقتصاد الحرب واقتصاد الازدهار والنماء الذي يدوم رخاؤه في كل الأوقات.



فالصين ذات التعداد السكاني الذي يفوق المليار ونصف المليار نسمة تتحدث أربعا وخمسين لغة، اثنتان وعشرون منها منطوقة لا تكتب، وهي للحديث فقط، والأخرى منطوقة ومقروءة، ويفوق معدل الإلمام فيها بالقراءة والكتابة التسعين بالمائة، بعدما أكملت محو أمية أكثر من 95% من الذكور، 87% من الإناث.



والتي كان قانونها الاشتراكي الشيوعي، لا يسمح للأسرة إلا بإنجاب طفل واحد، أدركت أنها في غضون العقدين القادمين، ستصبح دولة عجوزا، فسنت من القوانين ما يسمح بمكافحة هذه الظاهرة، فأجازت الطفل الثاني في المدن الكبيرة مقابل مبلغ مالي يدفعه الأبوان، ولكنها سمحت للناس في المدن الصغيرة والقرى بحرية الإنجاب دون مقابل، الأمر الذي دفع البعض من الراغبين في الإنجاب إلى الهجرة من المدن الكبرى إلى الصغرى، وهي هجرة عكسية بخلاف ما يحدث في بلداننا، حيث يهاجر الكل إلى العاصمة والمدن الرئيسية، حتى هجر الناس القرى والمزارع، فتعطلت التنمية في هذه المواقع التي عادة ما تصنع الازدهار والنماء وتضخهما في شرايين المدن الكبرى.



أعود إلى قصة الابتسامة المشتركة والتقاسيم الفرحة التي تراها في عيون الناس وعلى ملامحهم، سواء في «المولات» أو في الأسواق التقليدية، فلقد وجدت السر يكمن في إحساسهم الكامل بالقناعة وشعورهم بالرضا وإيمانهم بالطبقات، خاصة لدى كبار السن والمتقاعدين، والذين يعاملون هنا وكأنهم مواطنون من الدرجة الأولى، لهم من المميزات والأولويات ما لا يتوفر في كثير من بلداننا إلا للطبقات العليا وكبار رجالات الدولة.. فكبار السن والمتقاعدون، يركبون النقل العام مجانا، ويدخلون المستشفيات مجانا، ولهم الأفضلية في التعامل داخل المطارات، وكذلك المرضى وأصحاب الاحتياجات الخاصة.



أما المواطنون عموما، فلهم كثير من المميزات الوظيفية:

• يسمح لهم بالعمل الإضافي خارج مؤسساتهم الوظيفية، خاصة في التجارة الالكترونية.

• لهم من البدلات ما يدهش.. فمثلا.. الحكومة تؤمن لهم المواد الغذائية اللازمة من زيت وأرز وشاي وسكر، وهذا ينطبق حتى على موظفي القطاع الخاص.

• في حالة قيام الموظف بدعوة أصدقاء إلى طعام خارجي، يأخذ فاتورة الحساب ويقدمها لمرجعه الوظيفي، فيدفعون له قيمتها.. بحجة أن تحسين العلاقات العامة بين الناس، سيعود بالنفع على البيئة العملية ويزيد من تلاحم الناس وترابطهم، ثم أن الحكومة تدفع لجهات العمل قيمة هذه الفواتير.

• علاج الموظفين مدعوم من الدولة، والموظف يدفع في المقابل مبلغا رمزيا فقط، في حدود العشرين ريالا.

• السكن حق مشروع لكل موظف.. ونظام الإسكان في الصين يقضي بما يلي: الدولة تمنح الأرض لشركة عقارية مطورة. والشركة تدفع في المقابل ما يعادل قيمة الإيجارات لمدة سبعين عاما. تستلم الموقع بعد الحصول على كامل التراخيص واشتراطات الحكومة بالمساحات الخضراء والخدمات المساندة من مدارس ومستشفيات أو مستوصفات في كل مجمع سكني، الأمر الذي يساعد الناس على البقاء في مجمعاتهم دون زيادة الضغط على الطرق والمواصلات.. كل موظف له حق التمويل السكني والحصول على الدفعة الأولى والتي يدفعها البنك لمرة واحدة في العمر، وتحسم من قيمة معاشات التقاعد. أما القسط الشهري فيحسم من راتب الموظف بما يساوي 25% من مرتبه. وبحكم أن هذه الشقق تمنح للمتزوجين فيحسم من الزوجين ما يعادل (25% من كل منهما)، كل هذا بدون أي أرباح للبنوك.



وللسعادة أسرار، ولكنها تتلخص في القناعة والرضا اللذين يدفعان الإنسان إلى أن يعيش كريما بلا هموم ولا أحقاد.



[email protected]