محمد الحاجي

عن الذكاء الاجتماعي والعاطفي

الجمعة - 19 أغسطس 2016

Fri - 19 Aug 2016

نعم قد يكون الأول على دفعته الدراسية، وقد يكون الحائز على النياشين والجوائز الأكاديمية، لكنه أغرب الكائنات في محضر الناس، ويفتقر إلى أساسيات التعامل مع المحيط والمجتمع. قد يملك الذكاء الذهني والذكاء الصلب، ولكنه يفتقر للذكاء الاجتماعي والمهارات العاطفية.



قبل أكثر من مئة سنة تقريبًا، طوّر أحد علماء النفس معيار الذكاء الذهني intelligence quotient، هذا المعيار يقيس بدقة جيدة ومقبولة قدرة الشخص الذهنية على حل المسائل الرياضية والتسلسل المنطقي والاستيعاب اللغوي. بعد سنين طويلة من البحث والتقصّي والمشاهدات، لاحظ باحثو علم النفس أن هذا الرقم وحده لا يفسّر نجاح كثيرين في الحياة العلمية والعملية. هناك أمرٌ ما ينبئ بالنجاح أكثر من مجرد الذكاء الذهني. كان الفتح الأكبر في عام 1985 عندما نشر أحدهم ورقة علمية تناقش مفهومًا كان غريبًا حينها، أطلق عليه «الذكاء العاطفي» emotional intelligence. هذا المعيار يقيس مدى فهم الفرد لنفسه وعاطفته وتفاعله مع محيطه والناس من حوله. بالمختصر، هو مقياس لـ«اجتماعية» الفرد وقدرته على التحكم بمشاعر نفسه وفهم الآخرين.



حسب الأطروحة الأشهر في هذا المجال، الذكاء الاجتماعي يتكون من 4 أوجه: 1- إدراك ما يجري في نفسك من عواطف ومشاعر. 2- التمكن من إدارة وضبط هذه المشاعر. 3- إدراك المحيط الاجتماعي وفهم الناس من حولك. 4- إدارة العلاقات الاجتماعية والتعاطف مع الغير. استلهم الباحثون هذه المفاهيم وأجروا عليها المئات من الدراسات للتحقق من أثرها على أداء الفرد ونجاحه في حياته، وكما هو متوقع، نعم، كلما تمرست النفس على فهم نفسها وفهم الآخرين، اقتربت للنجاح والتقدم. وهذا ليس بمستغرب إذا ما عرفنا أن الإنسان «حيوان اجتماعي» كما يُعبر عنه في العلوم الطبيعية. فنحن لا نعيش في معزل عن العالم، نجاحاتنا وإخفاقاتنا هي في كثير من الأحيان نتيجة تفاعلنا مع الآخرين، وليست وليدة درجاتنا الأكاديمية لوحدها، وإن كان ذلك مهما بطبيعة الحال.



لهذا، قررت جمعية كليات الطب الأمريكية إدراج اختبار الذكاء الاجتماعي على المتقدمين لدراسة الطب. في بيان صحفي للمدير التنفيذي للجمعية «لتكن طبيبًا ناجحًا، عليك أن تفهم الناس وتعرف كيف تتواصل معهم. نجاحك كطبيب يتجاوز فهمك للأمور العلمية». من هنا بات قياس الذكاء الاجتماعي من أهم أدوات التوظيف في كبرى الشركات في هذا العصر بعد أن ازداد استيعابنا لسلوك ونفس الإنسان. عندما نمعن النظر في الشخصيات القيادية، نجد أن كثيرا منهم كانوا في المستوى المتوسط أكاديميًا. ليسوا عباقرة بالمعنى العلمي، ولكنهم دهاة في التواصل والتعارف اجتماعيًا. قبل أعوام، أعلنت قوقل قرارها الثوري في مجال الموارد البشرية عندما توقفت عن السؤال عن المعدل الدراسي في المقابلات الشخصية. فبعد مراقبة دقيقة لتاريخ التوظيف في الشركة، اتضح جليًا عدم وجود علاقة معتبرة بين التفوق الأكاديمي والأداء الوظيفي. يقول مسؤول الموارد البشرية في قوقل: «البيئة الأكاديمية بيئة مصطنعة بعيدة عن الواقع، تبرمج الطلبة على إجابات معينة ونمط تفكير محدد، الحياة ليست كذلك».



المبهج أن هذه المهارات الاجتماعية الناعمة، كفنون التواصل والتعاطف والتحكم بالمشاعر، هي مهارات قابلة للتعلم والتمرين. نعم، قد تكون صعبة المنال أولًا ولكن مع الاطلاع والتمرس تتحول إلى مَلكة وسمة شخصية. هناك كتب وهناك مواد مرئية غزيرة على الانترنت تساعدنا لكسب هذه الصفات، علينا فقط التحرر من الفقاعة الشخصية والنزول قليلا من البرج الأكاديمي. لنتذكر: الذكاء الذهني يعبر بك لتجاوز المراحل الدراسية، ولكن الذكاء الاجتماعي هو الطريق نحو انتصارات الحياة.