حسين بافقيه

إحسان عباس.. منهج الناسك

السبت - 27 فبراير 2016

Sat - 27 Feb 2016

يشدني إلى كتب الدكتور إحسان عباس النقدية منهجه العلمي الواضح، ولغته السمحة اليسيرة التي يبلغ بها مقاصده وأفكاره، وروح المعلم، ذلك الروح الذي يجعله يسوق المعرفة دون أن يُدل بمعلومة، أو يشمخ بمنهج، أو يلوي لسانه بمصطلح، وكأنما الغاية التي أخذ نفسه بها أن يذلل المعرفة لكل من رامها، وأن يقرب ما بين الآثار الأدبية وقرائها، دون أن يخل بأصول العلم والمنهج، وهو يسوق رأيه ومذهبه في النقد، وكأنه يحدث قارئه. وهذا الناقد الذي فسحت له من ألوان المعرفة ما لم يتح لكثير من الباحثين والنقاد، تهيأ له، منذ شبابه المبكر في فلسطين، وقبل أن يحوز الشهادة الجامعية من القاهرة، أن يتصل بتراث العرب والغرب معا، فكان مثالا للتوسط والاعتدال، ونموذجا لجيل اجتمع فيه التراث والمعاصرة، فعرفناه ناقدا أدبيا بصيرا بالأدب، ومؤرخا لآداب العرب، ومترجما لأصول النظريات النقدية الحديثة، ومحققا من جلة المحققين وأعيانهم، وأديبا مبدعا.

ويستطيع القارئ أن يرد اتصال إحسان عباس بنظرية النقد والمنهج إلى المدة التي تلقى فيها دروسه في معاهد فلسطين، قبل أن يهبط مصر، وكانت ترجمته لكتاب أرسطو في الشعر سبيله إلى الأصول الأولى لنظرية الشعر، ثم إذا به يخوض التأصيل للأنواع الأدبية، بعد ظفره بدرجة الدكتوراه، فيصدر كتابيه «فن الشعر»، و»فن السيرة». وعلى أن هذين الكتابين أراد من ورائهما أن يزجي المعرفة الأدبية والنقدية إلى الطالب الجامعي، بل القارئ العام، فإن كليهما انطوى على بصر بأصول النظرية الأدبية، واشتمل على خبرة بالأدب والنقد، جعلتهما جديدين فتيين، حتى إذا أخرج للناس كتابه الجليل «بدر شاكر السياب»، وكتابه الماتع «اتجاهات الشعر العربي المعاصر»، جلا لنا ذلك الناقد الشيخ الخبرة والبصيرة، فإذا بنا نقرأ ذينك الكتابين فنستمتع بتلكما الميزتين قدر استمتاعنا بأسلوبه العذب اليسير، وتواضعه الحبيب.

أصدر إحسان عباس كتابه «اتجاهات الشعر العربي المعاصر» عام 1978م، وعاد فأصدر الطبعة الثانية عام 1992م، وأنشأ مقدمة جديدة خص بها تلك الطبعة، انطوت، كعادة هذا الناقد الجليل، على خبرته في النقد والدرس والبحث، وعسى أن تكون تلك المقدمة درسا جديرا بدارسي النقد ونظريته أن يظهروا عليه، وأن يتعمقوا فهمه. كما اشتملت تلك المقدمة على ألم مُر لم يستطع الناقد الشيخ أن يطويه بين ضلوعه، فأفصح عنه إلى قارئه الحبيب، وأمرُ ما أنهاه إحسان عباس في مقدمته ما ادعاه نفر من الناقدين، أن كتابه ذلك يفتقر إلى «المنهج»، في كلام طويل تحسن قراءته في الكتاب نفسه، وربما كان أهم ما يعنيني منه قوله «إن كوني أكاديميا في المهنة وفي تعليم طلابي كيف يكون المنهج العلمي الصحيح، لا يعني أنني «أكاديمي» في الموقف النقدي. أما اتهامي بالعجز عن إتقان منهج لدراسة فإنه يعني أنني لم أُفدْ كثيرا من خبرتي الطويلة في تدريس المنهج، بل لعله قد يوحي أنني ضللتُ على مدى ثلاثين سنة أو تزيد عشرات الطلاب، كنت أدربهم على كتابة البحوث، وأشرف على رسائلهم الجامعية وأناقشها بإخلاص، وليس رائدي في ذلك سوى حق المنهج علي. أفلا يحق لي تجاه هذه التهمة الظالمة أن أشعر بالحزن على نفسي الجانحة التي اضطلعتْ بما تجهل، وبالحزن الأعمق على تعاسة أولئك الطلاب الذين ابتلوا بمثل ذلك الأستاذ؟».

لم يكشف لنا الناقد الشيخ أسماء أولئك الناقدين، حين أخذ في الدفاع عن نفسه، ولكنني أوشك أن أعرف - من سنة نشر الكتاب في طبعته الأولى – المنبع الذي صدروا عنه، ففي تلك المدة أنشأ جيل من النقاد العرب يتصل بطريف النقد في فرنسا وأوروبا وأمريكا، واستجلب نفر منهم ضروبا من الكلم التي راجت هنا وثمة، بلغ فيها إيمان منتحليها أن اعتقدوا أنه لا نقد إلا ما كان عليه من ذلك الكلم أثر، وجعلت كلمة «المنهج» تذيع شيئا فشيئا وتستعلي، حتى بات لها سحر على الألسنة، وإيمان في الضمائر، وانتهى بقبيل من النقاد أنهم لا يؤمنون بنقد لا يشبه ما هم عليه، فما استطابوا نقد الرواد، ذلك النقد الأدبي الذي أراد له أصحابه أن يكون أدبا نقديا، فيه من ذوق الناقد وروحه مقدار ما فيه من العلم الذي اتصل بضمائرهم، واستكن في «نياتهم»، دون أن يجهروا به، ولعلهم قدروا أن الجهر بذلك المنهج «بدعة» تفسد إيمان «الناسك»!