سليمان الضحيان

ظاهرة اختطاف منبر الجمعة

الأربعاء - 24 فبراير 2016

Wed - 24 Feb 2016

المتدبر للتنظيم الذي جاء به الإسلام لربط أفراد المجتمع ببعضهم يجد أنه نظم العلاقة في أربعة مستويات، مستوى يومي يلتقي به أفراد الحي الواحد خمس مرات من خلال اجتماعهم في الصلوات الخمس، ثم يرتقي التنظيم ليشمل جمهرة أكثر من خلال لقاء أسبوعي، حيث يجتمع فيه عدد من أحياء المدينة من خلال حضورهم لصلاة الجمعة، ثم يرتقى التنظيم إلى مستوى ثالث، وهو أشمل وأعم، وذلك من خلال اجتماع سنوي يشمل أهل المدينة أو غالبهم من خلال اجتماعهم في صلاة العيد، ثم مستوى رابع يلتقي به عموم المسلمين من أقطار شتى، وذلك في يوم عرفة، هذه اللقاءات الأربعة التي نظمها الإسلام للاجتماع في تدرج من الحي إلى الأمة كلها، هدفها إشاعة أواصر التآلف بينهم، لتأكيد الوحدة بين أبناء الأمة التي قال عنها الرسول صلى الله عليه وسلم «مثل المسلمين في توادهم وتراحمهم كمثل الجسد الواحد، إذا اشتكى منه عضو، تداعى له سائر الجسد بالحمى والسهر».

هذه الوحدة لا يمكن أن تتحقق إلا إذا بقي منبر تلك اللقاءات - وخاصة منبر الجمعة - عامل وحدة وتآلف، لكن الملاحظ أنه قد يتحول في واقعنا العربي أحيانا إلى عامل فرقة وشقاق وتناحر؛ إذ يتحول إلى منبر إعلامي يعبر عن توجهات وأفكار ورؤى الخطيب تجاه الأفكار والأشخاص والأحداث في مجتمعه، فخطبة تخصص لمهاجمة تيارات فكرية في المجتمع يختلف معها الخطيب، وخطبة أخرى تخصص لمهاجمة الرؤى الدينية لبعض الفرق والمذاهب التي تختلف مع الخطيب، وثالثة لمهاجمة ظواهر إعلامية وفنية لا تتفق مع رؤية الخطيب، ورابعة تخصص لمهاجمة شخصيات سياسية، أو رياضية، أو فنية، أو فكرية، يختلف طرحها مع فكر الخطيب، وقد يتحول المنبر إلى واجهة إعلامية لحزب أو تيار، فتقوم الصراعات للاستيلاء على منبر جامع ما كما يحصل في بعض البلدان العربية، فمن المتعارف عليه في تلك البلدان أن يكون الجامع الفلاني تابع للجماعة الفلانية، يعبر عن توجهاتها الفكرية، ويهاجم خصومها، وبهذا تتحول المنابر إلى واجهات إعلامية لتلك الجماعات، تتصارع في ما بينها، في ما يشبه الدعاية السياسية للأحزاب، والخطورة أن تحويل مهمة المنبر إلى ناطق باسم الخطيب وفكره، أو باسم الجماعة يتم باسم الدين، والمحافظة على قيم الدين، وهذا بالضرورة يحول الشخصية، أو التيار، أو الظاهرة المهاجمة من الخطيب إلى عدو للدين في وعي الجمهور الذي يستمد رؤيته الدينية من حضور خطب الجمعة، وهذا كله يفرغ خطبة الجمعة من هدفها الديني الذي شرعت من أجله، وهو تعليم أحكام الدين من عبادات، وقيم روحية، وأخلاق سامية ويحولها إلى أداة شقاق وفرقة وصراعات.

أدرك أن كثيرين يرون أن ما يقوم به الخطيب من مهاجمة لأشخاص، أو تيارات، أو ظواهر تتعارض مع الدين حسب وجهة نظر الخطيب، هو من باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر الذي هو من صلب مهمة الخطيب، ومع الإقرار بأن من مهمات الخطيب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فالإشكال في تحديد نوعية المعروف ونوعية المنكر، فمنبر الجمعة من المؤسسات العامة التي هي ملك لجميع الأمة، وليس لفرد، أو تيار، أو جماعة، مثلها مثل كل مؤسسة عامة، لا يجوز أن يستعملها فرد أو تيار لمهاجمة بقية أفراد أو تيارات الأمة، وعليه فالمعروف والمنكر الذي يجب على الخطيب التعامل معه هو ما اتفق على أنه معروف أو منكر، كأركان الدين وواجباته المتفق عليها، ومحذوراته المتفق عليها، التي يتفق الجميع على أنها منكر، وأما ترك تقدير ماهية المعروف والمنكر لوجهة نظر الخطيب الدينية فهو إقرار للخطيب بالملكية الفكرية للمنبر، وإذا كانت وجهات النظر الدينية تختلف من خطيب لآخر - كما هو مشاهد اليوم، إذ إن بعض الخطباء يبدع بعض من يختلف معه في جزيئات دينية - فهذا معناه تشريع للفرقة الدينية، وعليه فلا بد من الإقرار بأن منبر الجمعة ملك لجميع الأمة، يعبر فيه عن ما تتفق عليه الأمة، وأما مواطن الخلاف الديني، وما يتفق مع رؤية الخطيب الخاصة، أو رؤية التيار الذي ينتمي إليه الخطيب، فمكان الحديث عنه وتبيان وجهة نظره أو وجهة نظر تياره هو المنابر الخاصة بذلك الخطيب أو تياره، كالمؤلفات، والمؤسسات الثقافية الخاصة، ووسائل الأعلام الخاصة التابعة لهذا الخطيب أو تياره، فمن خلالها يعبر عن ما يشأ تجاه الأفكار والأشخاص والتيارات والوقائع التي لا تتفق مع وجهة نظره، وبهذا يدرك الجمهور أن النقد ـ حينئذ - يمثل وجهة نظر ذلك الشخص أو تياره، وليس بالضرورة يمثل الدين، فيكون ـ في نظر الجمهور ـ قابلا للخطأ والصواب.

وأما احتكار المنابر العامة ومنها منبر الجمعة لمصلحة وجهة نظر خاصة فهو تشريع للفوضى، وتأسيس للفرقة والانشقاق، وتحويل ما هو ملك للأمة لملكية خاصة.

[email protected]