حيص بيص.. حتى وصلت إلى العيص
السبت - 10 نوفمبر 2018
Sat - 10 Nov 2018
سلكت الطريق البري لأول مرة من محافظة ينبع متجها للمحافظة الواعدة محافظة العيص، فلم أشعر بتغير في جودة الطرق السريعة حتى خرجت من ينبع النخل، ليتغير الحال ويختلف المقال ويبدأ التفكير.
فهناك نحو 90 كلم تفصلني عن العيص تحتاج استعدادا لطريق مزدوج غريب وجوده في هذه الحقبة الزمنية، وبين هاتين النقطتين الهامتين في محافظات منطقة المدينة المنورة الطريق خطر وخدماته ليست على ما يرام، وتظهر عليه آثار الحزن لكثير من فواجع الأسر والأهالي جراء حوادث أودت بحياة كثيرين، فما هي فاعلة وزارة النقل؟
وحين اقتربت من العيص مررت بمحاذاة بواط ثاني غزوة غزاها المصطفى صلى الله عليه وسلم، ثم كُبَر تلك المساحة الجميلة بين الجبال، وصليت الفجر في القراصة الهادئة الوادعة التي تهدي المارين مساجد طريق باجتهادات سكان يعلمون بأن المعلمات والمعلمين يمرون من هذا الطريق في ظلمة ليل يقفون لدعاء ربهم أن يسلم ممشاهم ومرجعهم فشاركوهم في الأجر.
تجولت في محافظة العيص ثلاثة أيام من أجمل وأندى أيام حياتي في وطني، فعرفت المثلث والمربع؛ منطقتان بها، وزرت مزارع أمتان العريقة والضليعة، واقتربت من سليلة عنزة في اتجاه العلا، ومررت بالفشغات ووادي الجزل والزبائر.
تعجبت من جمال منطقة الغرزة وتمر الفرع وسد وادي العيص، وانبهرت من جبال في تلك المنطقة شرحت لي قول ربي «ومن الجبال جدد بيض وحمر مختلف ألوانها وغرابيب سود»، وعرفت من أين تأتي مادة خام لصناعة الاسمنت أودعها الخالق في جبال وهضاب تحتضنها العيص.
وقفت أسترجع التاريخ عند جامع الصحابي الجليل أبي بصير رضي الله عنه، وتذكرت قول رسول صلى الله عليه وسلم عنه «ويل أمه مسعر حرب لو كان معه رجال» وكيف جعل من العيص بوابة نصر للمسلمين، وعند قصر البنت التاريخي من عهد الرومان تأملت، وفي بئر هداج من عهد الأنباط تدبرت، وسمعت عن رأس الثور بالعيص وما عرفت مكانه فحزنت، ولما لمحت بيوت الطين والحجر القديمة في سوق العيص أوقفت سيارتي وتجولت وصورت وقرأت في جنبات بقائها ماضيا عريقا ثري الإلهام مهمل الاهتمام.
وهنا رجعت لنفسي وعتبت على هيئة السياحة والتراث كيف تؤخر ترتيب نمط سياحي تراثي في العيص، ولا تعجل في حماية تراثها، ولا تسعى للشراكة مع المؤسسات الحكومية بالعيص لتوجد لوحات إرشادية ومعلومات مكتوبة وبوابات ذات طابع رسمي ومرشدين سياحيين وفي العيص هذا الكم الكبير؟ ولولا أن وهبني الله صديقا من تلك المناطق تحمل شغفي وكثرة أسئلتي وثرثرتي ما كنت عرفت ولا زرت ولا اطلعت!
في العيص قوم من خيار الناس كرما وأخلاقا ومبادرة لتعاون واحتواء، يحبون من أتى إليهم، ويؤثرون على أنفسهم، يشكون منذ فترة من توقف عجيب غريب لرخص المحلات إنشاء ونقلا، وتوقف رخص البناء والتشييد، وكل ما يتعلق بالبيع والإفراغ للعقارات، دون أن يجدوا من يجيبهم بمنطق يرضونه، أو يحل لهم مشكلة هي في حق المواطن أصل أوصى به خادم الحرمين الشريفين مرارا كل مسؤول، ووزارة الشؤون البلدية والقروية - حسب أحاديث أهل العيص - تسببت في خسارات فادحة لكثير من أصحاب القطاع الخاص والمستثمرين دون مبرر يحميهم.
وفي العيص ما يدعو كل زائر لها أن يبيت ويزيد في أيام بقائه استمتاعا بمناخ في هذا الوقت وطبيعة أرض وصحبة أخيار فضلاء هم أهل العيص، لكن الشقق المفروشة المحدودة جدا في العيص تكاتف مشغلوها ممن لقيتهم فيها أن يرفعوا شعارا شفهيا لكل سائل وقادم مفاده (لا نؤجر العزاب) أو يسألونك هل أنت معلم؟
حري بالعيص أن تكون مناخ جذب لشراكة بين القطاعين الحكومي والخاص لإيجاد فندق ذي مواصفات وخيارات متعددة، يدر دخلا ويجذب قادمين وزوارا، وحري بالعيص أن تكون امتداد استراحة سياحية بين هيئتين ملكيتين هما ينبع والعلا، ليأتيها دعمهما الواجب رغدا من الجهتين، لكن العيص ما زالت تنتظر صابرة متأملة في جيل رؤية 2030 لعلها تكون واسطة العقد.
في بعض هجر وقرى محافظة العيص يموت النخل واقفا، لتستغرب كيف لهذا الإرث الزراعي الكبير أن يهجر وينسى؟ لكنك حين تسأل تجد أحاديث البعض تقنعك بأن الحل في منظومة خطة واقعية عملية للتوطين الحضري، فقد خلت منطقة الضليعة - كمثال - من أهلها - إلا القليل - وأنت تمر عليها لترى أحياء وبيوتا لا يسكنها إلا التاريخ والذكريات، فأهلها كبر أولادهم وبحثوا عن مواصلة أعمال فلم يجدوا.
كيف يكون (برني العيص) ذائع الصيت بين محبي التمر ولا يكون في العيص مصنع للتمور يوفر فرصا وظيفية؟ وكيف تكون العيص فاخرة السياحة طبيعة وتراثا وعمقا تاريخيا ولا يكون في العيص تنشيط سياحي ينخرط فيه شباب من الجنسين عملا وممارسة؟ كيف يكون لكبار المستثمرين في المملكة مزارع كبيرة في محافظة العيص ولم أشهد لهم أنا كمواطن عادي زار العيص أي واجبات في المسؤولية الاجتماعية بمنطقة العيص؟ كيف تكون محافظة العيص التي تضم 18 من القرى والهجر من غير فرع لجامعة تحمي طلابها وطالباتها من وعثاء السفر ومرارة الاغتراب؟
كل ما في العيص يغري بالاستثمار والتطور والاستقطاب لو أتيحت الفرصة عملا وتنفيذا في مهنية أداء لتفعيل القرارات والأنظمة والرؤى والمبادرات التي يزخر بها النظام الحكومي في وطني العظيم.
زرت العيص شغوفا، ومكثت فيها منبهرا، وغادرتها مغرما محبا.
albabamohamad@
فهناك نحو 90 كلم تفصلني عن العيص تحتاج استعدادا لطريق مزدوج غريب وجوده في هذه الحقبة الزمنية، وبين هاتين النقطتين الهامتين في محافظات منطقة المدينة المنورة الطريق خطر وخدماته ليست على ما يرام، وتظهر عليه آثار الحزن لكثير من فواجع الأسر والأهالي جراء حوادث أودت بحياة كثيرين، فما هي فاعلة وزارة النقل؟
وحين اقتربت من العيص مررت بمحاذاة بواط ثاني غزوة غزاها المصطفى صلى الله عليه وسلم، ثم كُبَر تلك المساحة الجميلة بين الجبال، وصليت الفجر في القراصة الهادئة الوادعة التي تهدي المارين مساجد طريق باجتهادات سكان يعلمون بأن المعلمات والمعلمين يمرون من هذا الطريق في ظلمة ليل يقفون لدعاء ربهم أن يسلم ممشاهم ومرجعهم فشاركوهم في الأجر.
تجولت في محافظة العيص ثلاثة أيام من أجمل وأندى أيام حياتي في وطني، فعرفت المثلث والمربع؛ منطقتان بها، وزرت مزارع أمتان العريقة والضليعة، واقتربت من سليلة عنزة في اتجاه العلا، ومررت بالفشغات ووادي الجزل والزبائر.
تعجبت من جمال منطقة الغرزة وتمر الفرع وسد وادي العيص، وانبهرت من جبال في تلك المنطقة شرحت لي قول ربي «ومن الجبال جدد بيض وحمر مختلف ألوانها وغرابيب سود»، وعرفت من أين تأتي مادة خام لصناعة الاسمنت أودعها الخالق في جبال وهضاب تحتضنها العيص.
وقفت أسترجع التاريخ عند جامع الصحابي الجليل أبي بصير رضي الله عنه، وتذكرت قول رسول صلى الله عليه وسلم عنه «ويل أمه مسعر حرب لو كان معه رجال» وكيف جعل من العيص بوابة نصر للمسلمين، وعند قصر البنت التاريخي من عهد الرومان تأملت، وفي بئر هداج من عهد الأنباط تدبرت، وسمعت عن رأس الثور بالعيص وما عرفت مكانه فحزنت، ولما لمحت بيوت الطين والحجر القديمة في سوق العيص أوقفت سيارتي وتجولت وصورت وقرأت في جنبات بقائها ماضيا عريقا ثري الإلهام مهمل الاهتمام.
وهنا رجعت لنفسي وعتبت على هيئة السياحة والتراث كيف تؤخر ترتيب نمط سياحي تراثي في العيص، ولا تعجل في حماية تراثها، ولا تسعى للشراكة مع المؤسسات الحكومية بالعيص لتوجد لوحات إرشادية ومعلومات مكتوبة وبوابات ذات طابع رسمي ومرشدين سياحيين وفي العيص هذا الكم الكبير؟ ولولا أن وهبني الله صديقا من تلك المناطق تحمل شغفي وكثرة أسئلتي وثرثرتي ما كنت عرفت ولا زرت ولا اطلعت!
في العيص قوم من خيار الناس كرما وأخلاقا ومبادرة لتعاون واحتواء، يحبون من أتى إليهم، ويؤثرون على أنفسهم، يشكون منذ فترة من توقف عجيب غريب لرخص المحلات إنشاء ونقلا، وتوقف رخص البناء والتشييد، وكل ما يتعلق بالبيع والإفراغ للعقارات، دون أن يجدوا من يجيبهم بمنطق يرضونه، أو يحل لهم مشكلة هي في حق المواطن أصل أوصى به خادم الحرمين الشريفين مرارا كل مسؤول، ووزارة الشؤون البلدية والقروية - حسب أحاديث أهل العيص - تسببت في خسارات فادحة لكثير من أصحاب القطاع الخاص والمستثمرين دون مبرر يحميهم.
وفي العيص ما يدعو كل زائر لها أن يبيت ويزيد في أيام بقائه استمتاعا بمناخ في هذا الوقت وطبيعة أرض وصحبة أخيار فضلاء هم أهل العيص، لكن الشقق المفروشة المحدودة جدا في العيص تكاتف مشغلوها ممن لقيتهم فيها أن يرفعوا شعارا شفهيا لكل سائل وقادم مفاده (لا نؤجر العزاب) أو يسألونك هل أنت معلم؟
حري بالعيص أن تكون مناخ جذب لشراكة بين القطاعين الحكومي والخاص لإيجاد فندق ذي مواصفات وخيارات متعددة، يدر دخلا ويجذب قادمين وزوارا، وحري بالعيص أن تكون امتداد استراحة سياحية بين هيئتين ملكيتين هما ينبع والعلا، ليأتيها دعمهما الواجب رغدا من الجهتين، لكن العيص ما زالت تنتظر صابرة متأملة في جيل رؤية 2030 لعلها تكون واسطة العقد.
في بعض هجر وقرى محافظة العيص يموت النخل واقفا، لتستغرب كيف لهذا الإرث الزراعي الكبير أن يهجر وينسى؟ لكنك حين تسأل تجد أحاديث البعض تقنعك بأن الحل في منظومة خطة واقعية عملية للتوطين الحضري، فقد خلت منطقة الضليعة - كمثال - من أهلها - إلا القليل - وأنت تمر عليها لترى أحياء وبيوتا لا يسكنها إلا التاريخ والذكريات، فأهلها كبر أولادهم وبحثوا عن مواصلة أعمال فلم يجدوا.
كيف يكون (برني العيص) ذائع الصيت بين محبي التمر ولا يكون في العيص مصنع للتمور يوفر فرصا وظيفية؟ وكيف تكون العيص فاخرة السياحة طبيعة وتراثا وعمقا تاريخيا ولا يكون في العيص تنشيط سياحي ينخرط فيه شباب من الجنسين عملا وممارسة؟ كيف يكون لكبار المستثمرين في المملكة مزارع كبيرة في محافظة العيص ولم أشهد لهم أنا كمواطن عادي زار العيص أي واجبات في المسؤولية الاجتماعية بمنطقة العيص؟ كيف تكون محافظة العيص التي تضم 18 من القرى والهجر من غير فرع لجامعة تحمي طلابها وطالباتها من وعثاء السفر ومرارة الاغتراب؟
كل ما في العيص يغري بالاستثمار والتطور والاستقطاب لو أتيحت الفرصة عملا وتنفيذا في مهنية أداء لتفعيل القرارات والأنظمة والرؤى والمبادرات التي يزخر بها النظام الحكومي في وطني العظيم.
زرت العيص شغوفا، ومكثت فيها منبهرا، وغادرتها مغرما محبا.
albabamohamad@